Tuesday 28 January 2014

غيبوبة


منذ سنوات وهو يرقد في غيبوبة، كان مريضاً في المستشفى قبلي وقبل كل من اعرفهم هنا. ليس ميتاً ولكنه اقرب للموت منه للحياة.

نعرف أغلب اهله واقربائه وبعضهم صاروا أصدقاء لنا. زواره كُثر،منهم من يتردد على زيارته بإستمرار ومنهم من يأتي مرة او مرتين في السنة، والبعض لا نراه إلا مرة واحدة ولا يعود.
لا أحد منّا يعرف كم عنده من الأبناء تحديداً، احصيت أكثر من خمسة عشر ذكرا وربما ثمانية بنات. البعض يقول انهم احصوا أكثر من ذلك، حتى أبنائه ان سالتهم فكل واحد يعطيك رقما مختلفا.
ابو عرب، هو لقبه وليس اسم اي من أبنائه الذين نعرفهم. عظيم الجثة، جهم الملامح  وممتلئ البنيان، يظهر على بدنه آثار طول المرض والمعاناة لكنه لا يبدو عجوزا. قال لي احد ابنائه مؤكدا ان عمره تجاوز المئة: الحجي مواليد ايام العصملي! وعندما لمح استغرابي استطرد قائلاً : من يوم انولدت وهو ختيار، وانا هسع عمري ستين!

قبل بضعة اشهر ولاول مرة خلال اقامته -  او معرفتي به- تحرك ابو عرب، لم نعرف لماذا ولكنه حاول النهوض من سريره، سحب انبوب الأوكسجين من الحائط فخلعه، كسر شاشة جهاز المراقبة، وقلب الطاولة التي كانت بجانب السرير بكل ما عليها. عندما دخلت الغرفة كانت كأنما زلزال ضربها، وكان هو على الأرض ملقى عل بطنه و يصرخ بشدة محاولا ان ينقلب الى ظهره. لم افهم اياً مما قال وكان صراخه اقرب إلى النحيب منه الى الكلام. كانت الصدمة والتعجب على وجوه الجميع، فالكل يعلم انه شبه ميت، وما قام به من تخريب وتدمير في الثواني القليلة التي تحرك فيها ملأتنا بالصدمة، مع شيء من الخوف.
في الأيام التي تلت تلك الحادثة ازداد عدد زواره، وجميع من نعرف من أبنائه حضر للمستشفى وكلهم يجتهد في تفسير ما حدث ولماذا حدث ذلك.

يوم الجمعة اجتمع عدد كبير منهم في استراحة الزوار، جلست بينهم بعد أن انهيت دوامي، كان الجميع يتبادلون الهمس والأحاديث الجانبية إلى ان تحدث سالم - وهو من ابنائه الذين تجاوزا السبعين- مخاطباً الجميع وقال: هذا الزلمة مجنون، كان راح يقتل حاله! نظر إلى عيون الجالسين متابعاً: يا جماعة سحب بربيش التنفس، يعني لولا ستر ربنا كان راح فيها. صمت قليلاً ثم قال متمتماً: عالله لو انه يموت ويريحنا ويرتاح.

قال ابو خالد( وهو اخ غير شقيق لسالم): يا جماعة انتم مكبرين القصة، تلاقي المشكلة في التخت وقلب، الزلمة ما فيه منه رجا.

كان عيسى يتحدث مع سليمان( وهما أيضاً غير شقيقان ويفصل بينهما بضعة عقود من الزمن) فقال رافعاً صوته: الحجي عايش وصاحي وما خربه غير كُثر هالادوية التي نازلين يصمتوا إياها، وكلها اجنبي الله يعلم شو فيها، خصوصاً هاظا المغذي اللي لونه اصفر.

فقاطعه سليمان مؤيداً : اه والله صحيح، احنا شو بعرفنا شو نياتهم في هالمستشفى؟ التفت الي مكملاً: يعني مش كل أصابع ايدك واحد. لم اعلّق ولم اردّ، لا لعجز ولكن لعدم الرغبة في الجدل خصوصا أن الغالبية من إخوته لا يتفقون معهما.

تدخل ابو جمال - وهو ليس من الأبناء وبعضهم يناديه "خال"  والبعض يناديه باسمه مفلح- في النقاش قائلاً : فكّونا من كيف وليش وهالاسئلة الماصخة وما الها طعم، كيفوه الحين؟ كيف صحته؟ شو ما صار، انتهى، الحين المهم علاجه وصحته.

ردّ عليه أبو حسين - وهو من الأبناء في منتصف الأربعين - : مثل ما هو، ميت!

نظر اليه ابو تركي - وهو من أبناء العمومة- وقال محتداً: فال الله ولا فالك، الرجل حيّ يرزق، وعكة وبتعدي!

ردّ ابو فارس - وهو أيضاً من العمومة- مستهزئاً: وعكة! يا رجل الزلمة في غيبوبة من ما ربنا خلق الخلق!

قال لي محمود( وهو من أصغر الأبناء ) وكان يجلس إلى جانبي، قال بصوت حزين: والله حرام اللي بصير مع الحجي، شاف عز وجاه في زمانه  ما حدا شافه، وهسه مرمي هيك واولاده بيتمنوا موته!

سمعه عبدالعزيز( وهو أيضاً من الأبناء الصغار ) وكان أيضاً يجلس بجانبي فقال : هو الواحد بيعيش عمره وعمر غيره، خلص بيكفيه!

ردّ عليه عثمان بحنق: لما ينتهي عمره بيكون بيكفيه، الزلمة لسه عايش!

فقال أبو يعقوب( وهو من أبناء العمومة) ساخراً : عايش! الميت في قبره في  منه رجا وهالحجي ما في منه رجا.

قام أبو صلاح( وهو ممن يترددون كثيرا في الزيارة ولم اعرف أبدا ان كان من الأبناء ام لا)، وقف وتوسط المجلس ثم قال بصوت جهوري: ابو عرب عايش، حيّ يرزق، واللي صار دليل انه بعده عايش، اليوم كسر الجهاز وخلع الحيط معناه لسه فيه حيل وحياة، وبكره - ان شاء الله- يرجع يمشي ويقهر كل عدو...

سكت الجميع قليلاً، لم تبدو على اغلبهم علامات الاقتناع بما قاله ابو صلاح وعادوا الى الهمس والأحاديث الجانبية. مرت بضعة أشهر على تلك الحادثة، لم يحدث اية تغيير في حالة ابو عرب سوى ان الأبناء انخفض حماسهم، من كانوا يرجون شفائه، ومن كانوا يرجون موته.

No comments:

Post a Comment