Monday 18 May 2015

انتظار

كتابات سوداوية

انتظار : هذا ما كُتب بخط اسود على اللوحة الذهبية اللون التي عُلِقت على الحائط الجانبي للقاعة الكبيرة. كراسي حديدية انتشرت ملاصقة للجدران، شكلها لا يعطي اي احساس بالراحة. اللون الرمادي غلب على كل شيء، الجدران، المقاعد وحتى الأرض التي يبدو انه كان لها لون في يومٍ ما.  أجساد منهكة ترامت على الكراسي الحديدية يطبع الحزن صورته على الوجوه والصمت يسود الموقف عموماً.

حارسٌ تغلب عليه ملامح السذاجة جلس الى جانب الباب الحديدي، يده ممسكة بالمقبض وعيناه تنتظران امراً بفتح الباب. الباب ازرق غامق وفيه نافذة " طاقة" صغيرة تسمح للحارس أن يرى الطرف الاخر من الباب.

هذه قاعة الانتظار خارج وحدة العناية الحثيثة، احفظ معالمها وتفاصيلها، كيف لا وأنا أقضي غالب نهاري وليلي جالسا على الكراسي الحديدية : انتظر.. وعلى الجانب الآخر ترقد والدتي على سرير تنتظر. ما أثارني كان تلك اللوحة: إنتظار! لم يُكتب قاعة إنتظار، أو الانتظار، او إنتظار الزوار، فقط: إنتظار! 

 ماذا تنتظر في هكذا مكان؟ الموت ام الحياة!
ام كلاهما؟
إنتظار، نكرة، نكرة مبهمة لا تعني الكثير للكثيرين، مثل احلامنا، آمالنا، أمانينا، حياتنا وموتنا...

كم من الأشخاص دخلوا إلى العناية المركزة، وكم من الآخرين انضموا إلينا في هذا المكان، في هذا العمل المقدس: إنتظار. ولا شيء ابدا، سوى المزيد من الإنتظار. الحياة معجزة، وكذلك الموت، ونحن ننتظر كلاهما.

شاب عشريني يرتدي دشداشة بيضاء تصل إلى تحت ركبتيه بقليل، دخل القاعة بسرعة وانضم إلى جماعته المنتظرين، تحدثوا عن المعجزات، عن الرحمة، عن التوبة. طرقٌ خفيف على الباب من الداخل، والحارس كعادته متأهب ممسك بقبضة الباب، خرجت من الداخل امرأة محجبة في متوسط العمر (حين يخلو العمر من الفاجعات) ، انضمت اليهم للحظات ثم بدأت بالنحيب..

نقالة يجرها شابان يبدوان وكأنهما في سباق، يجري إلى جانبها وخلفها بضعة اشخاص يرتدون الأبيض أو الأزرق، رجل اربعيني مستلقي عليها، يهتز جسده الهزيل مع اهتزازهها وكأنه يتأرجح بين الموت و الحياة. دخلوا جميعا من الباب الحديدي، الحارس ممتلئ بالإثارة وهو ممسك بقبضةالباب، يحرص على سرعة دخولهم في لحظات، كأنه هاديس ممسك بكلابه، ولا احد يخرج.
بعد لحظات وصلت مجموعة من النساء يلحقهم بضعة رجال يتبعون النقالة، لكن الحارس حريص على ان لا يدخل أحد. بدأ صوتهم يعلو، شتائم ودعاء، بكاء وصراخ. تبادل المنتظرون النظرات معبرين عن امتعاضهم، امعنوا في اللوحة: انتظار، ثم عادوا إلى انتظارهم موقنون أن القادمون الجدد سيتعلمون فن الإنتظار سريعا.

يوم الجمعة تتحول قاعة "إنتظار" إلى خلية نحل، حركة دؤوب وزوار كثر، يزورون المنتظرين ليطمئنوا عليهم، ويواسونهم في انتظارهم. مشاعر حقيقة تختلط مع نفاق اجتماعي، واجب او محبة، كلاهما متشابهون، في انتظار الموت والحياة كل المشاعر لا قيمة لها.

لا أعرف اياً من الأسماء، لا المُنْتَظَرون ولا المنتظِرون، فلا شيء يجمعنا هنا سوى أننا لأيام قلائل تشابهت وتقاطعت حياتنا في هذه القاعة، وعند وصول معجزتنا، او معجزتهم، سيكون لدينا ما يشغلنا عن بعضنا.

كل يوم ينضم إلينا أناس جدد، وينسحب آخرون، يأتي الموت، يتجول بيننا، يجالسنا، ثم يسير بهدوء نحو الباب الحديدي، لا ينتظر أن يفتح الحارس "هاديس" الباب، يمر بثقة ويأخذ ما يريد، يعود إلى قاعة الإنتظار، يمعن النظر في اللوحة، ثم يغادر مؤكدا أنه سيعود قريبا. يحزن ويرحل أصحاب المعجزة، ويواصل الآخرون الإنتظار بأدب واحتراف.




كتبت في شهر آب 2009... هاديس هو إله العالم السفلي في الأساطير اليونانية