Thursday 25 June 2020

مراجعة ‏لكتاب ‏"في ‏الشعر ‏الجاهلي" ‏ ‏لطه ‏حسين

طه حسين: في الشعر الجاهلي
كان الصديق عدنان الشبول دائما ما يكرر ان شعر عنترة بن شداد سهل ولين، قريب إلى القلب مفهوم المعاني خالٍ من غريب اللفظ، وكنت اتسأل في نفسي لما ذاك؟ فعنترة من شعراء الجاهلي واللغة قد اختلفت؟ لم يخطر في نفسي يوما ان أشك في صحة نسبته إلى عنترة بن شداد، لكن كنت اتسأل ان كان عنترة بن شداد قد عاش فعلا وقال شعرا وقام بالمغامرات التي قام بها، ام هو مجرد شخصية خيالية من اختراع الحكواتية، مثل ابو زيد الهلالي والسفيرة عزيزة. 

قبل أيام وفي تصفحي لأحد المقالات وجدت إشارة لكتاب طه حسين : في الشعر الجاهلي، واثار فضولي ما ذكره الكاتب من الهجمة التي تبعت نشر الكتاب رغم تتبع طه حسين للمنهج الديكارتي في بحثه وكتابه. 

بدأت بمطالعة الكتاب قبل أيام، وهو متوفر على شبكة الإنترنت، والكتاب صغير الحجم يقع في أقل من مئتين صفحة وقد أتممت القراءة اليوم. 
بداية الكتاب كانت مبشرة، فطه حسين يتحدث عن منهج الشك الديكارتي الذي اتبعه للوصول للحقيقة، والساعي للحقيقة الذي لا يهمه شكلها ومكانها وما ستكشف عنه، لا شك سيسعده ان يجد ان ذلك هو المبتغى من هذا الكتاب. ولا شك، على الاقل قبل التعمق في القراءة، ان أغلب من هاجموا الكتاب إنما فعلوا لا تعصبا للحقيقة وإنما تمسكا بمعتقدات وأثار وآراء هي عندهم الحقيقة، بل هي أهم من الحقيقة. 

استعرض طه حسين في عجالة الشعر الجاهلي واللغة واللهجات، والحق ان طغيان اللغة العربية القرآنية على الشعر الجاهلي تثير الشكوك، فأين اللغات او اللهجات العربية التي كانت منتشرة في جزيرة العرب قبل الإسلام؟ ومما لا شك فيه ان اهل الحضر تختلف كلماتهم عن أهل البادية، وعرب اليمن لغتهم فيها فرق واضح عن لغة العرب في شمال الجزيرة. 

عندما طُبع الكتاب المقدس نسخة الملك جيمس، قدمت هذه النسخة اللغة الانجليزية لمنطقة وسط إنجلترا كلغة أصبحت هي اللغة، او اللهجة السائدة. فوجود الكتاب المقدس بهذه الطريقة وحدّ اللغات الانجليزية المحكية في لغة واحدة. 

القرآن الكريم كذلك وحد اللغة العربية في لغة واحدة، فأصبحت لغة قريش هي اللغة التي يتحدث بها العرب في كل الجزيرة، ومن ثم في كل بلاد الإسلام. وقد ذكر أهل الحديث روايات لاحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، نجد فيها تباين الللغة العربية، ذلك ان الرسول كان احيانا يتحدث الى بعض الناس بعربيتهم لا عربية قريش. فمثلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ مِنْ ‏امْبِرِّ ‏امْصِيَامُ فِي ‏امْسَفَرِ "، وهذه طريقة بعض اهل اليمن بقلب اللام ميم. 

وهذا ما ذكره طه حسين، ليس بنفس الطريقة ولكن نفس الفكرة. وأجد نفسي متفقا مع هذا الطرح وهو مما يجعل الشعر الجاهلي موضع الشك، فلغة قريش وعربية القرآن غالبة على عموم الشعر الجاهلي الموجود بين ايدينا الآن. 
للأسف الشديد ان طه حسين رغم استناده لهذا المنطق في نقد صحة الشعر الجاهلي، لكنه لم يتبع اسلوب علمي في ذلك. ظننت ان عالما بالادب واللغة مثله سيكون في امكانه سرد أمثلة على كلمات ومفردات ومعاني في قصائد منسوبة للشعر الجاهلي تخالف واقعهم حينذاك. وربما كنت اطمع ان أرى كلمات في قصيدة وتبيان ان اصل الكلمة قرشي وليس كناني (على سبيل المثال)، او اظهار تصوير او تشبيه ما عرفه اهل الجاهلية. لكن طه حسين اكتفى بوضع رأيه في هذا على أنه مرجع وفصل الخطاب. 

بعد ذلك بدأ طه حسين في سرد الأسباب التي اعتقد انها وراء انتحال الشعر الجاهلي، ولماذا فعل الشعراء والساسة والقصاص والرواة وعلماء اللغة ذلك. وقد اخذ هذا السرد غالب الكتاب، والاراء التي بيّنها كلها اوردها جازما ومقرا ان الشعر الجاهلي منحول، واستغربت من انعدام الشك الديكارتي الذي ذكره في المقدمة، بل خلوه من اي منهج علمي وانما هو رأي الدكتور طه حسين الشخصي. فهو قد قدّم للكتاب موضحا المنهج، وبعد استعمال المنهج بعشرين صفحة اصبح الشك يقين والرأي حقيقة مجردة، واسترسل طه حسين في شرح الأسباب التي أدت الى نظم القصائد ونسبتها - نحلها- الى شعراء الجاهلية. 

ان غالب الأسباب التي ذكرها طه حسين لها مكانها واصلها، وقد سبقه اليها أهل الحديث النبوي والذين اعتنوا بفرز الحديث الصحيح عن الموضوع، وقد بين بعضهم أسباب وضع الحديث وتلك غالبها نفس الأسباب التي سردها طه حسين. 

في اخر ٤٠ صفحة من الكتاب ابتدأ طه حسين بعرض بعض الشعراء وتبيين ما نُحل إليهم من الشعر- بحسب رأيه. وأعلم تماماً أنني لست خبيرا في الأدب العربي، ولكني اقول جازما ان ما أورده طه حسين لا يتجاوز رأي شخصي له. فهو لم يقبل القصص المحكية عن هؤلاء الشعراء، لأنها يعتقد أنها خيال محض، وهذا فيه صحة وخلط. وطه حسين تخبط بين القول بنفي وجود امرؤ القيس ومن ثم وجوده، ونفس القول شمل المهلهل وعمرو ابن كلثوم. ورأي طه حسين - وهذه شطحة مني- في الشعر رأي من لا يفهم الشعر، او لا يحبه، أو رأي من أراد أن يغلب قوله مهما كان. ولا تستغرب قولي هذا، فإنه قال عن شعر عمرو بن كلثوم مليء بالسخف والاسفاف! وأورد أمثلة على ذلك 
إذا بلغ الفطام لنا صبيا
تخر الجبابر له ساجدينا
يقول هذا سخف، بينما قال عنه كثيرون أنه أفخر بيت قالته العرب. ثم ساق طه حسين بيتا آخر بعده أخر:
ألا لا يجهلنّ أحدٌ علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فمدح القول برفض البدوي للضيم، لكنه اعتبر البيت ركيك وممل لتكرار الحروف. واما في رأيي فان هذا من ابلغ ما يمكن قوله في الشعر، ومن جميل ما قال المتنبي في هذا المقام ومتبعا نفس اللون البلاغي:
ﻭﻣﻦ ﺟﺎﻫﻞ ﺑﻲ ﻭﻫﻮ ﻳﺠﻬﻞ ﺟﻬﻠﻪ ... ﻭﻳﺠﻬﻞ ﻋﻠﻤﻲ ﺃﻧﻪ ﺑﻲ ﺟﺎﻫﻞ
وقد مرّ معي ان الجرجاني اورد في كتابه عن المتنبي مادحا تكرار اللفظ ما نصه: ﻭﻗﻠﺖ: ﻣﺎﺯﻟﻨﺎ ﻧﺘﻌﺠﺐ ﻣﻦ ﻗﻮﻝ ﻣﺴﻠﻢ ﺑﻦ اﻟﻮﻟﻴﺪ:
ﺳﻠﺖ ﻭﺳﻠﺖ ﺛﻢ ﺳﻞ ﺳﻠﻴﻠﻬﺎ ... ﻓﺄﺗﻰ ﺳﻠﻴﻞ ﺳﻠﻴﻠﻬﺎ ﻣﺴﻠﻮﻻ
ﺣﺘﻰ ﺟﺎء اﻟﻤﺘﻨﺒﻲ، ﻓﻤﻸ ﺩﻳﻮاﻧﻪ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺠﻨﺲ، ﻓﺄﻧﺴﺎﻧﺎ ﺑﻴﺖ ﻣﺴﻠﻢ.

لكن أكثر ما أثار استغرابي هو رفضه لشعر عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة معتبرا اياه ركيك وسخيف- لسلاسته، ومن ثم رفض شعر طرفة بن العبد لكونه صعب المراس لا يمكن قرأته دون الرجوع للمعجم مرات ومرات. وكيف استقام الحكم بالرفض هنا وهنا هو من اعجب ما قرأت!

أعلم أن طه حسين هُوجم بشراسة بعد نشره هذا الكتاب، ولم اطلع على اي من الكتب التي انتقدت هذا العمل، ولا أستطيع الحكم ان كانوا فعلوا انتصارا للشعر ام للحق ام لآرائهم. لكني لم أجد في الكتاب تحليلا منطقيا ولا شكا ديكارتيا، بل وجدت سردا لآراء شخص واحد، فيها الغث وفيها السمين. 

قد يبدو لوهلة أنني قد وقعت في نفس الخطأ الذي وقع فيه طه حسين، وهو الحكم بالرأي الشخصي بدل الدليل العلمي، وهذا صحيح مع فارق: فأنا هنا أقدم مراجعة ورأي شخصي في كتاب "في الشعر الجاهلي"، ولم أدعي أنني أقدم بحثا في صحة الشعر الجاهلي او كفاءة طه حسين. للأسف، لم يغير الكتاب قناعتي عن الشعر الجاهلي، وهو انه فيه الجيد والرديء وفيه الصحيح والمكذوب، وينبغي ان يُبحث هذا الموضوع (وربما قد حدث) بطريقة علمية تعتني باللغة كأساس ومنطلق للبحث. 

أحمد بكر 

2 comments:

  1. رأي طه حسين، كونه طه حسين، هو بذاته حجة. لا شك أن عجزه عن إثبات وجهة نظره مأخذ عليه، لكن رأيه سيكون حجة لغيره على مر العصور. شكرا على الملخص و لكن التحقيق في قضية أكاديمية كهذه لا شك مشكل

    ReplyDelete
    Replies
    1. طه حسين عميد الأدب العربي ورأيه حجة ومرجع، لكن ليس في هذا الموضع والسبب بسيط: الكتاب عبارة عن بحث علمي لإثبات أو نفي الشعر الجاهلي، والاسلوب البحثي للوصول للنتيجة هو الشك الديكارتي. هذا ما قدّم به طه حسين لكتابه، لذلك لا يجوز أن يأتي بعد ذلك بصفحات ويستغني عن المنهج البحثي ويكتفي برأيه.
      والكتاب طبع في عام ١٩٢٦، وطه حسين توفي ١٩٧٣...

      Delete