Saturday 22 June 2013

إلى صديق لا يعرفني

التقينا صدفة, أصر الجابري على ان نجلس أمامه وبدأ يقرأ من ديوان محمود درويش الجديد( احد عشر كوكباً).

كنت اعرف محمود درويش كأي فلسطيني او عربي, لا احفظ شيء من شعره ولكن من منا لم يسمع ب "سجل انا عربي" او "احن الى خبز أمي" !

كنت محبا للشعر, احفظه واقرأه بنهم, ولكن الشعر العامودي فقط. لم اكن من محبي الشعر الحر, كنت اعتبره عجزا عند الشاعر في اللفظ والقدرة على ركوب خضم الشعر العامودي.
لا انكر انني انسجمت معه بسرعة, شدني مطلع القصيدة :

 أتعلم يا ابي ما حل بي
لا باب يغلقه علي البحر
لا مرأة اكسرها لينتشر الطريق امامي
حصى او زبد..

هل يتحدث عني, لكنه لا يعرفني! لم نلتق يوما واحداً رغم ان المكان جمعنا مرات عديدية, في بيروت ودمشق وعمان, ولكن لم نلتق, فهل من المعقول انه يتحدث عني...

بعد هذه البداية تهت عن باقي القصيدة, استمر عدنان في القراءة وانا في السرحان, تجتذبني كلمة وتلفظني أخرى, اقفز من فقرة إلى فقرة فلا انا في القصيدة ولا انا خارجها!

 والبحر هذا البحر لا يحتله احد
سأمشي فوقه وأطحن ملحه وأسك فضته بيدي

 بدأت اجترُّ الذكريات, أعود بمخيلتي, متى جلسنا, متى التقينا, متى تحادثنا, متى اجتمعنا, لم اجد شيء, لكن كان الكثير يجمعنا.. فهو يتحدث عني, عاودني التركيز وعدت إلى القصيدة

 أتى كسرى وفرعون وقيصر والنجاشي وأخرون
ليكتبوا أسمائهم بيدي
فكتبت لإسم الارض وأسم الأرض الهةً تشاركني مقامي
 في المقعد الحجري
 فأنا لم أذهب ولم أرجع مع الزمن الهلامي
 وانا انا ولو انكسرت رأيت ايامي امامي


 هل قلت اني لم التق بدرويش, نعم اظن اني ذكرت ذلك, ولكن الشك اصبح يشبه اليقين, اما اننا التقينا وتحادثنا او ان اكون انا من كتب هذه القصيدة, رغم اني لا احب الشعر الحر خصوصا, ولا اكتب الشعر عموماً !


هكذا كان لقائنا صدفة, واستمرت العلاقة وترسخت, جمعني شعره بأصدقاء جدد, مارسيل خليفة, سميح شقير,
 ازددت قربا من فيروز,
ازددت حبا لفلسطين,
ازددت ادمانا للقهوة
أصبحت اقرب لنفسي
اصبحت أكثر حزناً..

ومثل كل العلاقات الإنسانية, تغيرنا. جرى الزمان بنا, ابتعدت مرة أخرى عن الشعر بمجمله, اخذني الشغف بالقراءة إلى علومٍ أخرى وأصحاب جدد.

كنت اتفقد درويش بين الحين والآخر, اجده يزداد سوداوية ورمزية, يبتعد عن "الانا" الفلسطيني التي جمعتني به, ويستطرد في "الانا" الإنساني او "الانا" الشخصي, والاثنان اكرهما: اكره نفسي, وهذه الإنسانية التي اوصلتني إلى هذا الكره.

وانا أيضاً لا احب اخذ النصح من الاخرين, ولا اقبل الاوامر من احد, وشِعره وان كان صديقي فهذا لا يعطيه أي حق بالإملاء علي! واعتقد انه ادرك ذلك, فكتب لي معتذرا:

من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟
وأنا لم أكن حجراً صقلته المياه
فأصبح وجها
ولا قصبا ثقبته الرياح
فأصبح نايا..
أنا لاعب النرد
اربح حيناً.. وأخسر حيناً
انا مثلكم او أقل قليلاً..


لم يكن هذا هو السبب الوحيد الذي اعاد الصداقة إلى ما كانت عليه, فرغم تباعدنا الا اننا لم نفترق, كنا معا دون ان نشعر, كان حاضرا رغم غيابه, كان كالظل!

لا ذكر ولا أنثى
يتبعُني، ويكبرُ ثُمَّ يصغرُ
كنت أمشي. كان يمشي
كنت أجلسُ. كان يجلسُ
كنت أركضُ. كان يركضُ
قلتُ: أخدعُهُ وأخلعُ معطفي الكُحْليَّ ...
قلَّدني، وألقي عنده معطفَهُ الرماديَّ...
قلتُ: أخدعُهُ وأخرجُ من غروب مدينتي
فرأيتُهُ يمشي أمامي ...في غروب مدينةٍ أخرى...


كيف نهرب من هذا الشيء, من هذه اللعنة, من هذه التعويذة التي نلبسها في كينونتنا الفلسطينية والعربية! كلما انهزمنا, كلما اشتد حصارنا, كلما سقط طاغية او انتصر طاغية, كلما مرت من امامي جنازة شهيد.. تعود الذاكرة الى هذه الكلمات..
فمديح الظل العالي لم تقتصر على بيروت, بل امتدت إلى بغداد, والآن في دمشق. وملك الاحتضار كانت حاضرة في كل الاتفاقيات من كامب ديفيد إلى شرم الشيخ.. واللقاء كان يتجدد مع تردد ابريل, مع رائحة الخبز في الفجر.. والحنين إلى الام حاضر في كل لحظة, والحب يتجدد كلما طار الحمام او حط الحمام..

عندما امشط الذاكرة أُيقن اننا لم نلتق, ولكن عندما أقرأ كلماته أعرف اننا لابد اجتمعنا في مكان ما, انا وهو, في مقهى باريسي, او على شاطئ بحر بيروت, او تحت الشجرات الثلاث الوحيدات إلى جانب البئر, او على أبواب غابة السنديان.. جلسنا معا وتناولنا القهوة معا, فكلانا يحبها بنفس الطريقة, وكلانا يحب ان يصنعها بنفسه.. وتبادلنا الحديث عن الذكريات, عن الوطن, وعن الحبيبة.. ثم قمنا ومشى كلٌ منا إلى موته- همه- حلمه!

عجيب انت يا صديقي-  كلما ازددت حزنا ازددت جمالاً!





1 comment:

  1. محظوظ ذلك القلم الذي تخط فيه أفكارك، صديقي أحمد. جميل ذلك الفكر الذي يمليه و تلك الورقة التي تحويه. محظوظ درويش بذكراك له.
    إستمتعت بقراءتها.

    ReplyDelete