Tuesday 15 November 2016

أيلول الأبيض

هذه القصة حقيقية وبعض أبطالها لا يزالون على قيد الحياة (تم تغيير الأسماء فقط) ...

أيلول الأبيض

قال أبو أحمد بصوت عالٍ محاولا أن ينهي النقاش: والله عمركم سمعتم عن عائلة ما تختلف؟ وهكذا نحن؛ عائلة، إخوان وأولاد عم ونسايب، حملنا السلاح على بعض، وحملناه ندافع عن بعض....
همهم الجميع بالموافقة وساد صمتٌ للحظات. عدّل أبو خالد من جلسته، تربّع على الكنبة ورفع رأسه وصوته:
صلوا على رسول الله...

تردّد صوت الصلاة في المضافة، وتابع ابو خالد الذي كان صامتا طيلة المساء :

يا جماعة أنا كنت في كتيبة سلاح الهندسة في الغور، وجاءتنا الأوامر بالتحرك إلى عمان في أواخر أيلول في تلك السنة.
الرحلة من الغور استغرقتنا أكثر من نصف النهار في الجيب المنهك من الخدمة، مثلنا.
وصلنا أنا وثلاثة من الأفراد من كتيبتي إلى كتيبة الإرسال في جنوب عمان عند العصر، وبمجرد أن ترجلنا جاءنا أمرٌ بالتحرك مباشرة إلى منطقة القصور.
قال لنا الرقيب: ما نقدر نعطيكم سيارة، لازم تروحوا مشي وديروا بالكم!
قال "ديروا بالكم"، ونحن لا نسمع إلا صوت القصف والرصاص!

بدأنا بالمسير بين الحقول واتجهنا إلى "حي نزّال"، كنا متعبين من الرحلة في الجيب، من قلة الاكل والنوم، ومن الخوف الذي يحيط بنا، وكانت خطى الليل أسرع من خطانا. بدأنا نقترب من العمران والليل يحط مظلته السوداء، صار صوت الرصاص أشد، وصوت الموت أكثر صخبا. الشوارع مقفرة ولا شيء سوى أثر الرصاص على واجهات البيوت.
بيوت ساكنة، لا تدري هل هي خالية من سكانها، أم تراهم جثثٌ في الداخل؟ وكلاهما - الخلاء والموت - يشتركان في الصمت...
شقّت بضعُ رصاصاتٍ الهواء الذي نتنفس، ارتطمت بالحائط القريب وتناثر التراب علينا. شعرت بارتفاع الحرارة في الجو، وبدأ جسدي بالتعرّق. نظر العسكر الثلاثة إليّ نظرة باحث عن جواب، ركضت باتجاه أحد البيوت القريبة وهم يلحقون بي، دفعت الباب الحديدي بقدمي فانفتح على مصراعيه، دخلنا حوش ومن ثم باب آخر موصد، ضربته بكتفي فانفتح على ظلام دامس. دخل أربعتنا وقبعنا في الظلمة، لا نسمع إلا صوت لهاثنا وصكصكة أسناننا..
بدأت أحاول استجماع قواي، نظرت حولي فانتبهت أني أجثو على ركبتي، لم يكن لدى ركبي أي قوة قادرة على حملي! للحظات نسيت اسمي، من أنا ولما أنا هنا، كل ما كان يدور في ذهني هو صوت الرصاص يخترق الهواء بقربي ويضرب الحائط المقابل...
لم أدرِ كم مضى من الوقت قبل أن استطعت أن أقف وأبدأ أستطلع ما حولي؛ المكان معتم ولكن هناك ما يكفي من الضياء لأرى الجنود الثلاثة يجلسون القرفصاء والخوف بادٍ على ملامحهم، الغرفة التي نحن فيها هي بيت الدرج، بجانبها غرفة صغيرة لها شباك مطلي بالأسود، الدرج يصعد للأعلى وبجانب الدرج باب حديدي آخر لم أدر إلى أين يذهب.
نظرت إلى الجنود وقلت: أنتم بخير؟ في أحد مصاب؟
ردوا فرادى: لا سيدي...
قلت: الحمد لله، نقعد الليلة هنا والصباح رباح. بدا الإرتياح والموافقة على وجوههم جميعاً..

مرّ بعض الوقت، الثواني بطيئةٌ جدا في الليل، صوت رشقات الرصاص لم ينقطع، يبعد ويقترب ولكن لم يتوقف..
بدأنا نسمع صوتا يصدر من خلف الباب الحديدي بجانب الدرج، لم نميّز الصوت الخافت، لكنّنا ميزنا الخوف يعلو وجوهنا بعد أن كنا قد بدأنا نشعر بشيء من الطمأنينة... صار الصوت أوضح، صوت أنين وهمهمات لم نميز ما تكون...
قلت لرفاقي: ما الرأي؟ قالوا نوجهّ بنادقنا إلى الباب، إن خرج أحد قتلناه، وإلّا نبقى إلى الصباح ونرحل! قلت: لا، يجب أن نعرف ماذا خلف الباب.. وبعد قليل  قررنا أن ندفع الباب.
قلت لهم أنا أدفع الباب، إن خرجت رصاصة واحدة ألقوا كلّ ما بجعبتكم من موت حتى وإن قتلتموني...
الخوف شيء عجيب، يدفعنا إلى أشياء لا يمكن تخيلها....

اقتربت من الباب ببطء، أعدت النظر إلى بندقيتي وكنت كمن يرجوها أن تحميني، نظرت خلفي فرأيت الجنود متأهبين ممسكين بأسلحتهم، أحسست أن خوفهم مما سيحدث قد يسبق أي موت قد يأتي من وراء الباب، سرت قشعريرة في ظهري وشعرت ببرودة شديدة. دفعت الباب ببطء بفوهة بندقيتي، كان هناك درج صغير وعتمة قاتمة، صحت بصوت عالٍ حاولت أن لا يظهر خوفي فيه: من هناك؟
جاءني الرد سريعاً بصوت نسائي : مدنيون، مدنيون...
أحسست ان خوفهم أكبر من خوفي فشعرت بالطمأنينة. أومأتُ للجنود خلفي مطمئنًا لهم، نزلت درجتين وأعدت السؤال ولكن بصوت أقوى خالٍ من الخوف: من هناك؟

لم يكن معي من ضوء إلا القداحة، أشعلتها باليسرى ويمناي لا زالت تمسك بالبندقية. بدأت أستبين ملامح الغرفة ومن فيها، الغرفة لا تزيد عن ثلاثة أمتار طولا بمترين عرضا، سقفها منخفض ولا شباك لها.. أربعة نسوة جلسن على حصير رقيق ملتصقات ببعضهن وبالجدار، لمبة كاز وقلة ماء إلى جانبهم ولا شيء آخر...
قلت: في رجال في البيت؟ جاء الرد سريعاً : لا، ما في...
كان ضوء القداحة الخافت يكفي لتتضح بعض ملامح النساء، امرأة كبيرة في العمر، صبيتان وطفلة.. قالت إحدى الصبيتين:  الرجال راحوا من يومين ونحن هنا ما تحركنا...
قلت: عليكم الله وأمان الله، أنتم خليكم هون، ونحن قاعدين فوق والصبح نرحل...
لم يقلنّ شيئا، ولم أتوقع أن يقلنّ شيئا، ففي الحرب والليل والموت كرم الضيافة ليس هو ما تبحث عنه، كل ما تريده هو الحياة...

عدت إلى جماعتي في الأعلى وقد سمعوا كل شيء، جلس كلٌّ منّا في زاوية صامتا يحلم بيوم آخر في هذه الدنيا .. استمرّت الثواني بمشيها البطيء، وازداد صوت الأنين القادم من القبو، لم يرغب أيا منّا بمعرفة ما يحدث، كان يكفينا همّنا.. صار الأنين صياحا يشقُّ صمت الليل ويعلو على صوت الرصاص.. صحت من مكاني : إيش في؟ جاءت إحدى الصبيتين وقالت وهي تبكي: بدنا داية!
صمتنا جميعًا للحظة دامت طويلاً، لم أدر إن كانت تسأل،  أم تطلب أم ماذا! قلت مستفسرا : نعم؟
قالت بصوت متحشرج: بدنا داية، أختي تلد، والأمور متعسّرة، بدنا داية!
قلت: هل تعرفين ماذا في الخارج؟ موت! كررت الكلمة وانا أمدّها: مووووت!
لم ترد...
نظرت إليها وقلت: إن شئت أن تذهبِي فافعلي! قالت: أنت رجل، وجيش، وتعرف تدبر حالك!
قلت لها بحزم: يا خيتي أنا في هالليل ما أطلع!
ردت علي بحزم أكثر، والدمع يملأ عينيها: إذاً، إنزل وطخها، خليها ترتاح... أمّا هيك حرام، والله حرام...
صمتُّ قليلاً  ثم قلت : لا حول ولا قوة إلا بالله...وأين هذه الداية؟
قالت : شارعين من هنا..
قلت: أنا من الجيش الأردني، ويمكن الداية ما ترضى تيجي معي، وانا يجوز ما اندّل، إبعثِي معي البنت الصغيرة وإن شاء الله ما يصير إلا الخير..

وقفت عند الباب للحظات، التفتُ إلى الطفلة التي لم تتجاوز العاشرة وقلت لها: عمو تركضي معي؟ فهزت رأسها موافقة...
خرجت من البيت والتفتُّ يسارا ونحن ملتصقين بجدران المباني. وصلنا نهاية الشارع وانحنينا باتجاه اليمين، كانت نزلة خفيفة، أدركت ذلك بعد أن قطعت بضعة أمتار.. سمعت صوت رشقات الرصاص تقترب نحونا، لم أميز إن كانت من الميم سيكستين ام كلاشنكوف، كلّ ما يتحرك هو هدف لايٍّ كان. ضممت الصغيرة تحت إبطي ورفعتها عن الأرض وبدأت بالجريان إلى نهاية النزلة وانعطفنا يسارا حسب ما وجهتني، كان الشارع مظلما وخاويا، خففت من ركضي حيث صار صوت الرصاص بعيداً. أشارت الصغيرة إلى أحد البيوت المعتمة بأنّه بيت الداية، صفقت الباب الحديدي بيدي فخرج صوت نسائي من الداخل: مين؟
قلت: الداية أم حسن هون؟
أطلت امرأة خمسينية من نافذة قريبة من الباب وشهقت: جيش أردني؟
قرّبت الصغيرة من النافذة وقلت: محتاجينك.. قالت الصغيرة: زوجة أخي تلد، يا خالتي منشان الله ساعديها!
تغيرت تعابير وجه الداية، فقد تعرفت على الصغيرة، قالت: هسع آجي...
انتظرنا بعض الوقت عند الباب، أمعنت النظر في البيوت المحيطة، شعرت بأنّ آلاف العيون تنظر إلي، قد تكون إحداها عين قنّاص، هل سأُقتل هنا ( قلت في نفسي) ؟
انطردت الهواجس من فكري حين خرجت إلينا الداية، كانت أعرض مني بأربع إلى خمس مرّات، لم أستطع ان أقاوم إبتسامة تسربت إلى فمي حين تخيلت نفسي أحملها تحت إبطي الآخر وأركض بها... قلت لها: هل تستطيعين الركض؟ ولم أكن بحاجة للجواب، لكنها قالت: لا، إنت أركض مع الصغيرة وأنا بدبر حالي...

عاودنا أدراجنا أنا والصغيرة، صعود المنحدر متجنبا الرصاص أصعب من نزوله، لكن لا بديل عن الحياة. مع كل خطوة أخطوها أسمع رشقات الرصاص، لا أدر إن كنت أنا المستهدف ام آخرين غيرنا على بعد أميال، لكن صوت الرصاص كان الشيء الوحيد في ذلك الليل الذي يمكن سماعه.
وصلنا البيت ودخلنا سريعا، مرّت بضع لحظات حتى انتبهت أنني لا زلت أحمل الصغيرة تحت إبطي،أنزلتها مبتسما وقلت : الداية في الطريق. مرّت دقائق طويلة، بدأت أتخيّل الداية قابعة على المنحدر، بضع رصاصات اخترقت جسدها، تنزف ببطء كل ما بها من حياة، وقطع تشاؤمي طرق على الباب، كانت الداية..
نزلت إلى القبو وثم خرجت الصبية وقالت: ممكن تجيب البابور وشوية أغراض من فوق؟
وبسرعة صعدت الدرجات إلى الطابق الأول وبدأت أبحث عن طلبها، كان ضوء القمر خافتا لكن كافيا لاتبيّن بعض ملامح المكان، تساءلت إن كان القمر يدري بما يجري في عمان!
أنزلت الأشياء للقبو وناولتها للداية وعدت إلى رفاقي في بيت الدرج. بعد قليل سمعنا بكاء الوليد الجديد، تبادلنا الإبتسامات والضحك مهنئين بعضنا البعض..
جميلة هي الحياة في إصرارها على الاستمرار برغم كل ما حولنا من موت...
خرجت الداية إلينا وقالت: في معكم أكل؟
نظرنا إلى بعض ثم قلت: والله صار لنا يومين ما ذقنا الزاد!
قالت: الوالدة بدها أكل، عشان ترضع وعشان تعوض، او تموت هي ووليدها..
قلت: ما في  أكل في البيت؟
نظرت إليّ مستغربة سؤالي ولسان حالها يقول انظر حولك!
قلت: ما الرأي؟
قالت: هناك محل دجاج ليس بعيد من هنا مغلق من أيام ، لا بد أنّ فيه بعض الدجاج الحي!
لم أناقش، قلت لها صفِ لي الطريق..

اتجهت مع أحد العسكر إلى خارج البيت، اتجهنا يميناً وسرنا إلى آخر الشارع، ثم انعطفنا يسارا  وأسرعنا بالركض ونحن ننزل في الشارع الترابي، بعد مسافة قصيرة تعرفنا على المحل كما وصفته لنا، خلعت القفل الحديدي لأجد أقفاص الدجاج تصطف إلى جانب الحائط. كانت الرائحة الكريهة تشير إلى أن الكثير من الدجاج قد فطس في هذه الأقفاص.. بدأنا نبحث عن الدجاج الذي نجا من الرصاص والجوع لنقتله نحن، كنت اناول رفيقي الدجاجة فيفصل رأسها عن جسدها ويرميها على الأرض لتنزف. وجدت سبع او ثمان دجاجات، لم يكن لدينا كثير وقت لانتظار تصفية الدّماء. حملنا الدجاج وهو ينزف وركضنا عائدون إلى البيت. ناولناهم الدجاج وبعد قريب الساعة أرسلنّ الينا بعض قطع الدجاج، مسلوق، لا يزال غالب ريشه عليه، ولا ملح أو بهار أو خبز، رغم هذا كان ألذ طعام تناولته في حياتي..
مع اقتراب الصبح جاءت المرأة المسنّة وقالت لنا: يا أولادي، قد يأتي الفدائية إلى هنا خلال النهار، وقد لا نستطيع حمايتكم!
قلت: نحن سنتحرك مع أول النهار..
قالت لي ما أسمك؟
قلت: محمد عمر...
قالت: كنتي انجبت ولدا، وسنسميه "محمد عمر"....


ساد صمت عجيب في المضافة، أكثر من عشرين شخصا ولا تكاد تسمع شيء، حتى أنفاسهم مكتومة، كأنهم مختبؤن من الرصاص والموت مع محمد عمر..

مد ابوخالد رجليه أمامه، نظر إلى كل من في المضافة، وشاهد العيون مغرورقة بالدموع، صمت قليلاً ثم تابع:

مع أول النهار سرت مع العساكر إلى جبل عمان ومن هناك اتجهنا إلى القصور، كانت الطريق من وسط البلد أقرب لكن كلها موت...
أمضيت سنوات طويلة في الجيش، وبعد تقاعدي عملت مع شركة مواد تموينية، أوصل البضائع إلى المحلات. في أحد الأيام وجدت نفسي أُوصل طلبية إلى حي نزال، أوقفت الحافلة على جانب الرصيف وبدأ العمال ينزلون الحمولة. أشعلت سيجارتي ووقفت أراقب العمل وشعرت أني غبت عن الوعي، لقد كنت أقف أمام محل الدجاج الذي كسرت قفله قبل عقدين من الزمن..

تحشرج صوت ابو خالد وهو يروي القصة، مسح دمعة ندت من عينيه بطرف غطرته، تنحنح لينظف حنجرته وتابع:

سقطت سيجارتي من يدي، بدأت أتصبّب عرقا  وبشكل لا إرادي صرت أتتبع خطواتي في تلك الليلة. وصلت إلى ذلك البيت، لا يزال الباب الحديدي كما هو لكن لا أثر للرصاص... صفقت الباب بيدي، أطلت إمرأة من خلف الباب، قلت: هذا بيت أم فؤاد؟ صمتت المرأة للحظات ثم تمتمت: نعم! قلت ممكن أشوفها؟ قالت تفضل...
دخلت من الحوش ومررت بجانب بيت الدرج ومن ثم إلى الغرفة التي كان شباكها مطليا بالسواد. كانت فسيحة جدا  وضوء النهار يملؤها.. جلست على أريكة مريحة ودخل رجل يقربني عمرا إلى  الغرفة، سلّم علي مُرحبّا وجلس.
قلت له متأتاً:
انا أمضيت ليلة في هذا البيت قبل أكثر من عشرين سنة، أنا اسمي محمد عمر ورويت له ما جرى في ذلك اليوم!
قام الرجل من مكانه وبدأ يقبل وجهي وجبيني والدموع تقطر من عينيه.. اجتمعت بعض النساء عند الباب يستطلعن ما يحدث. نظر نحو الباب وقال لهم بصوت متعثر: هذا العسكري، هذا محمد عمر... بدأت عدوى البكاء تنتشر في البيت،  صاح بأعلى صوته : يا محمد، يا محمد... دخل شاب يفوقني بنية إلى الغرفة مستفسرا: نعم، نعم يابا؟
قال لي وهو يحتضني: هذا محمد عمر، وأنا أبوه وهذه - وأشار نحو الباب إلى امرأة جاثية تنتحب- وهذه أمه...

تذكرّت تلك الليلة، فرحتنا جميعاً بالمولود، وكيف أن القدر جمعنا لنعين بعضنا، لا لنقتل...

أيلول قد يكون أسود كما تقولون، ونعم أيلول لا زال  جرحا غائرا، حزنا قديما، أو أيّ مسمى مما تدعون؛ لكن الذي أذكره من أيلول هو ذلك الخيط الأبيض..


أحمد بكر

No comments:

Post a Comment