Tuesday 29 August 2017

لديّ حلم

لدي حلم...

أكثر ما أحب رؤيته في المدن التي ازورها هو حقيقة المدينة، لا أحب الفنادق ذات النجوم التي يسكنها من يعيشون فوق النجوم، ولا مجمعات التسوق السياحية التي يرتادها من لا يعرفون قيمة المال، ولا المطاعم التي تشبه بعضها البعض في كل مدن العالم. أحب أن ازور بسطات الخضروات التي تبيع ما يجود به الموسم، دكاكين الأسواق المكتظة بالبشر الباحثين عما يحتاجون، المقاهي الشعبية التي يجلس على كراسيها المتعبون من الحياة، أمثالي. وفي إسطنبول وجدت كل ذلك، وأردت ان أستمتع بكل ذلك..

في ثاني يوم لي في المدينة، قادتني خطواتي التائهة في الأسواق إلى مقهى شعبي في زاوية مخفية من زوايا هذه المدينة الساحرة. جلست على كرسي من القش وظهره مطرز بزخارف هندسية، الطاولة الحديدية بقربي تشهد على سنوات طوال من الخدمة، مجلسي بجانب المدخل، مقابل محل بيع شاورما قررت ان اجربه وانا انتظر وانظر.. جاءني صاحب المقهى بإبتسامة عريضة يعلوها شارب كث، وتمتم مرحبا وبدا أنه يسأل ماذا أريد؟ قلت: قهوة سادة؟ تعابير وجهه أفضت بأنه لم يفهم، فكررت : قهوة سادة،وعدتها بالإنجليزية ولكن ذلك لم يغير من تعابير الاستفهام على وجهه! لا أعرف من التركية سوى كلمتين، شاي وملح (تشاي وطز) ، فإذا اصبح الخيار واضحاً : تشاي، فكرر موافقاً: تشاي...
بعد لحظات جاء طفل يبدو أنه عايش العالم أكثر مني لكن لا أظن أنه تجاوز العاشرة. وضع كأس الشاي والسكر بجانبه وقال مبتسماً : تحكي عربي؟ قلت:  نعم، ويا ريت تجيب لي قهوة لأني لا أحب الشاي. عاد بعد دقائق يحمل القهوة، سألته : من أين من سوريا؟ قال بلكنة واضحة : حلبي، من نفس حلب. واسترسل قائلاً : بس صار لي هون أربع سنوات، عُمْر! أسررت في نفسي، أربع سنوات لمن كان مثلك هو عمر، ولمثلي هو الأمس.. قلت: وأهلك؟ قال : نحن نسكن قريب من هنا، أمي تعتني بالصغار، وانا أبي نعمل، هو في البناء وأنا هذا كاري...
صمتُ، لم ادرِ ما أقول، الصغار؟ انت تعتبر انك الآن من الكبار!
قال: صاحب المقهى يعطيني 100 ليرة في الأسبوع، وان شاء الله في المستقبل يزيدني..
قلت: ألا تريد أن تعود للمدرسة، لطفولتك؟
قال ضاحكاً : أنا خلصت تعليم، أخذت الابتدائية وخلص يكفي، الآن انا عليّ مسؤولية أساعد أهلي.
شعرت أن الدنيا توقفت، خفتت جميع الأصوات في المدينة، السماء دنت مقتربة من الأرض مصغية السمع، الأرض للحظة فقدت الرغبة في الدوران، وتجمعت الدموع في عيني. أردت أن أقول له: انت طفل، مسؤوليتك ان تحيا كطفل، تحلم كطفل، اردت أن اعتذر عما حصل له ولطفولته، ان اعتذر لكل أطفال سوريا، عن الأحلام التي لم يعودوا يملكون أن يحلموها...
لم أقل أياً من ذلك، هنأته على حلمه، واجزلت له البقشيش، وغادرت المقهى وانا أحلم أن أستطيع أن أعيد للأطفال السوريين أحلامهم...

(عن حادثة أخبرني بها صديق وكتبتها)
أحمد بكر

No comments:

Post a Comment