Monday 4 February 2019

الإشتياق للماضي..


(عن القراءة الخاطئة للتاريخ، والحنين إلى الوهم القابع في ثناياه)

عشت في صغري في قرية في ضواحي دمشق، كانت قطعة من الجنة، بساطة الناس، طيبتهم، وجمال الطبيعة، نهر نسبح فيه، شجر المشمش والجوز يملأ المكان، الثلج في الشتاء، والشمس في الصيف، نعم كانت الجنة. ومما يزيد من نعيم الجنة أننا في عطلة المدارس نحمل حقائبنا ونرتحل إلى بيتنا في عاليه، بالقرب من بيروت. فيلا واسعة تتوسط تلة ليس فيها إلا بيتنا وبيت ابو كميل في اعلى التلة..

صورة من الماضي، جميلة؟ نعم. حقيقية ؟نعم. لكنها ليست الحقيقة ،بل جزء مختار بعناية. فنحن غادرنا سوريا مرغمين، ونحن قد خسرنا بيتنا في لبنان، وخسرنا أشياء اخرى كثيرة..

درسنا في المراحل المدرسية المختلفة الكثير عن أمجاد المشرق، عن الخلافة الراشدة،الدولة الأموية والعباسية، عن الناصر صلاح الدين، وكنا ننظر إلى الواقع المرير الذي نحياه ونشتاق إلى تلك الأمجاد، نسرح في خيالنا وامانينا إلى العصور الذهبية التي عاشها أجدادنا.

كانت أول صدمة لي حين استوعبت ان الشيعة غير الشيوعية (ولم اتعلم ذلك من المدرسة)، وأن المسلمين فرق وطوائف متناحرة، وأن في تاريخنا حروب داخلية مات فيها الكثير من الصحابة والرعيل الأول من بناة الأمجاد التي درسنا عنها! عرفت حينها اننا لم ندرس التاريخ، وإنما درسنا عن فصول مختارة بعناية من التاريخ لتوصيل فكرة أصبحنا كلنا ضحية لها.

قبل بضع سنوات غردت الصحافية ديمة الخطيب:" بصراحة أصبحت أشك في كل كتب التاريخ وكل ما تعلمناه عن الماضي. لأني أرى الحاضر وأرى ما يُكتب عنه من أكاذيب، فما بالك بما كتب عن عصور ولّت؟"
تعلُّم التاريخ ليس سهلا، فكل كتاب هو عبارة عن مختارات جمعها الكاتب لينقل لنا تاريخ تلك الحقبة، بعضها علمي بحت، وغالبها تسوده الشوائب، بقصد أو غير قصد، فدراسة التاريخ ليست تجربة مخبرية عملية، بل سرد لوقائع نقلها رواة وسجلها كتّاب بشر، مثلنا، لهم انحيازاتهم، خوفهم، اطماعهم، ورغباتهم. ربما أكثر جملة قرأتها تُظهر زيف التاريخ هو مقولة وينستون تشرتشل: التاريخ سيكون لطيفا معي، لاني انا من سيكتبه.

من هنا تبدأ العقدة تزداد، فأنت تقف أمام تاريخ يمتد لأربعة عشر قرناً، كل حقبة كتبها المتنصرون، الكثير تم حذفه، تغييره، او اهماله، ومع ذلك هناك كم هائل من القتامة والظلم والاستبداد يملأ هذا التاريخ. وعلى ضفاف الحاضر، هناك أجيال تعيش وتحلم بالامجاد القديمة، وترفض ان تتقبل اي انتقاص او انتقاد لهذه الأمجاد، بل تُخوّن من لا يؤمن معها بهذه الأساطير ولأوهام.

طبعاً من الجحف اغفال ان في الأربعة عشر قرنا كان هناك أوقات عز وحضارة، أوقات علم وأدب، أوقات انتصارات وفتوحات، نعم كل ذلك موجود وأكثر، لكنها أربعة عشر قرناً. لذلك ربما ما علينا فعله عند الحديث عن التاريخ هو الإشارة إلى المرحلة التاريخية، تحديد بدايتها ونهايتها، تعريف ما المقصود أو المراد بالمثال، ثم استخدامه. أما ان نشير إلى الدولة العباسية مثلاً وكيف ان عاصمتها بغداد كانت حاضنة العلم وحاضرة العالم، فهذا سخف، لأنها استمرت لقرون طويلة، أولها لم تكن بغداد موجودة، وجُلّها كانت الدولة متشتتة، تنهاشها الدول الأخرى والخلافة كانت شكلية وسيطرة الخليفة لا تتجاوز قصره (وفي كثير من الأحيان لم يك له سيطرة على قصره).

نعم، نعيش واقع مرير، حكامنا واعلامنا فاجرون وفاشلون،يحكمنا الجهل والتخلف وتقتات علينا الأمم الأخرى ويضحك علينا القاصي والداني. نعم، ولكن هذا ما كنا عليه غالب العصور الفائتة، ولربما ان خُيّرت في أي حقبة زمنية أريد أن أعيش، لربما اخترت زماننا هذا على الرغم مما فيه، ليس لقتامة الماضي وحسب، لكن للأمل في المستقبل (وطبعا عشان عنا وا فاي).

No comments:

Post a Comment