Saturday 16 February 2019

الموقعين عن رب العالمين




عن الحلال والحرام والفتوى..
صنّف ابن القيم رحمه الله كتاب في الفقه وأصوله سمّاه إعلام الموقعين عن رب العالمين. والمقصد واضح: حين تفتي فأنت توقّع بالنيابة عن الله، يعني بلغة العصر المتحدث الرسمي عن ربنا! إدراك هذا المعنى يجعل الكثيرون ينأوون عن نفسهم هذا الثقل، لكن الحقيقة أننا نجد الكثيرين يتسابقون ليتلقبوا بهذا الإسم.
شخصيا ولقبل بضع سنوات، ما كنت لأجرؤ على التعليق على علمائنا، فالعلماء لحومهم مسمومة كما يقال. لكن مع انحطاط المستوى، وما انكشف من الكثير منهم وانهم ليسوا سوى ورقة التين التي يستر بها الحكام عوراتهم، او يمسحوا بها مؤخراتهم، أجد نفسي اصطدم مع الكثير من الفتاوى عقائديا ومعتقديا وفهما وقبولا.
استثارني أحد الأصدقاء حين وضع فتوى للشيخ صالح الفوزان عن تحريم بناء دور العبادة لغير المسلمين في بلاد المسلمين، فسألته عن رأيه هو في الأمر، كونه مثلي يعيش في بلد يسمح لنا بمطلق الحرية بممارسة شعائرنا. الجواب كان انه لا مكان للقناعة الشخصية في مسائل الحلال والحرام، وهو منطق كنت أؤمن به لوقت قريب، فأتيته بقول لنفس العلامة يُحرّم فيه قيادة المرأة للسيارة، وسألته هل تتبع قول العالم، هل هذا في نفس منطق الحلال والحرام ام لا؟

الفوزان وغيره، نصّبوا انفسهم كموقعين عن رب العالمين - من عجيب اللغة العربية ان نصّاب هي صيغة المبالغة ل نَصبَ - واتبع قولهم كثير من البشر. وهؤلاء حرّموا اشياء كثيره حرمت البسطاء من كثير مما منحنا الله، فالتصوير كان حرام حتى ان البعض ليس لديهم سوى صورة الجواز او الهوية، إلى ان بدأت الفضائيات وإذ بهم لا يمانعون ان تنتشر صورهم أينما حلّوا. والتعامل مع الاجنبي حرام إلا اذا كان لمحاربة دولة شقيقة، والخروج على هذا الحاكم حرام جمعا، لكن واجب الخروج على ذاك. نتف الحواجب حرام نصا، ولكن قتل آلاف الأبرياء فهو لمصلحة رب الدولة فلا بأس.

وأذكر هنا نص قرأته للقرضاوي من بحث قدمه في بداية العقد الماضي عن شراء البيوت في الغرب عن طريق البنوك. فذكر الشيخ فتوى قديمة له حرّم فيها هذا الأمر، واستطرد انه بعد ان كبر ورأى كيف ان من أخذ بقوله شقّت عليه الحياة، وان من لم يأخذ بقوله اصبح يعيش في بيت يملكه ويورثه لأولاده من بعده. والقرضاوي غيّر فتواه،لكن من اخذ بها وهو في الثلاثين من عمره، لن تنفعه الفتوى الجديدة حين بلغ الستين وهو لا يزال يسكن بالأجرة.

الكلام في هذا الشأن يطول، وأعلم ان البعض يقول لا تتبع عثرات العلماء، واعلم أيضاً ان البعض يقول عليك نفسك، واعلم ايضا ان البعض يقول من اجتهد واخطا فله أجر، وإلى ما في ذلك من اقوال مشابهة.

انا لن اخذ بأي من هذه الأقوال، فالخطأ له عواقب، بعضها بسيط وغالبها وخيمة. فالخطأ في فتوى التصوير ليس عاقبته كالخطأ في فتوى الاستعانة بالأجنبي في القتال، والخطأ في فتوى علامة الطهارة من الدورة ليس كالخطأ في تحريم قيادة المرأة للسيارة. عثرات العلماء تقتل وتشرّد، فداعش استندت في مرجعياتها إلى فتاوى، وكذلك الحشد الشعبي، من مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى الآن والقتل يحدث بالفتوى، ودون ذلك كثير، ومثله اكثر. ونفسي مرتبطة بملايين البشر الذين يشاركونني هذه الأرض ويأخذون بأقوال هؤلاء، ويتعاملون في حياتهم اليومية كأفراد، كمنظمات، وحتى كدول بفتاوى لعلماء، وكل ذلك يمسني، ويمس كل من أعرف.

الان نحن أمام مفترق مهم، كيف نتعامل مع الفتوى؟ هل هي رأي شخصي لفلان؟ طبعاً لا. هل هي علم له قواعده وضوابطه؟ نعم.
ان اخطأ المهني في ممارسة مهنته عليه تحمل النتائج، وان أعطى الشيخ فتوى فعليه وزرها، في الدنيا والآخرة.

إذا، الفتوى، علم، ولكن كيف نتعامل مع العلوم؟ وهل كل العلوم لها نفس الدرجة من المصداقية والمرجعية؟ معلوم ان غالب العلوم الطبيعية، المبنية على البحوث الميدانية والمخبرية، تتغير فيها الحقائق والمسلمات، فهل يجب علينا التعامل بهذا المنطق مع العلوم الشرعية؟
لا اعرف الجواب... لكن،لن أخذ بقول عالم (فتوى) بالقول عن هذا حرام، وكنت اقف دائما متعجبا من اقوال الإمام أحمد بن حنبل في كثير من مسائله حين يقول عن شيء “لا يعجبني" و عند تلاميذه هو حرام، إلا انه لم يقلها، وعند ابو حنيفة الواجب وهو عند تلاميذه فرض!
يعني، بالمختصر، كلمة حرام وحلال كلمة كبيرة، ان افرط العلماء في استخدامها، فلا تفرط في اتباعهم.

No comments:

Post a Comment