Sunday 17 May 2020

قراءة ‏التا ‏يخ ‏

قراءة القرآن وقراءة التاريخ
أحمد بكر 

(هذه الخاطرة منبعها فكرة طرحها د علي الوردي في الفصل ١٢ من كتابه مهزلة العقل البشري)

يقول الوردي انه وخلال دراسته في الصفوف الأساسية كانت حصة التاريخ مثيرة ومحببة للتلاميذ، وحصة القرآن ثقيلة ومملة. وهذا بسبب ان التاريخ الذي ندرسه يحكي عن الأمجاد والانتصارات فقط، حتى حين يتحدث عن الفراعنة يخبرنا عن الأهرامات وما شيدوه من حضارة، بعكس القرآن الذي يتحدث عن الضعفاء ومواجهتهم للجبابرة، وعند الحديث عن الفراعنة يشير رمزا الى ما شيدوه من آثار ويستفيض شرحا عن الظلم الذي كانوا يكيلونه للشعوب.

للأسف الشديد ان غالب اطلاعنا على التاريخ هو اطلاع على تاريخ الملوك والدول، وأفضل مثال على ذلك هو كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي، الذي سرد فيه تاريخ الإسلام من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عهده (القرن الخامس عشر) وذلك من خلال تسمية الخلفاء، وسرد ما جرى في عهد كل منهم. ولكن الغائب عن هذا التاريخ هم الشعوب الذين عاصروا أولئك الخلفاء، فهؤلاء قصص جانبية وجملة او اثنتين في السيرة لذاك الخليفة، واما كيف كانت حياتهم وسخطهم وثوراتهم على حكامهم فهذا غالباً لا يذكر إلا إذا قتلت الثورة الخليفة او خلعته.

والقرآن ذكر لنا قصص الأنبياء والدعاة إلى الله، وبإستثناء الذي حآج إبراهيم ،والملك في قصة يوسف وفرعون في قصة موسى لم يك هناك ذكر للحكام ولو بالإشارة (داوود وسليمان استثناء آخر لانهم هم أهل الملك)، وانما ابطال هذه القصص هم الشعوب وانبيائهم الذين ثاروا ضد الضلال والظلم والاضطهاد والفساد.
ورغم ان غالب قصص القرآن اظهرت تعالي الظلم والظُلّام ورفضهم لقبول الحق وانكسار الحق أمام الباطل، إلا أن الدعاة والوعاظ يَرْوّنَ هذه القصص ليقولوا لنا ان النصر دائما معنا نحن أهل الحق، أهل الثورة على الضلال و الظلم. ونعلم يقينا ان هذا حدث مع عاد وثمود وأصحاب الأيكة، فقد كفروا واستبدوا وتجبروا ولم ينجح النبي ومن آمن معه بتغيير الأمور، ولذلك انزل الله عذاب الله عليهم والمعجزة الإلهية انتصرت، لا الحركة البشرية. اما إبراهيم فقد ترك بلده وهاجر، وموسى اخذ قومه وهاجر، والرجل الداعية في سورة ياسين قُتل، وهكذا دواليك. 

ولربما أكثر القصص تمثيلا لهذا المبدأ ،واقلّها حظاً من دروس الوعاظ هي قصة أصحاب الأخدود (تطرق سيد قطب لهذا في كتابه معالم على الطريق)، فهؤلاء قومٌ آمنوا بالله وثاروا على الاضطهاد والظلم، فكان عاقبة هذه الثورة هي موت كل من شارك فيها بالحرق في الأخدود. والقرآن ذكر القصة وذكر معانتهم ولم يتطرق ولو رمزا الى الطاغية الذي أمر بحرقهم (الآيات التي تلت تتحدث بالمطلق والعموم وليس خصا)، وإنما ذكرت سبب حنقهم وحقدهم على هؤلاء المؤمنين، لتدعم قضيتهم وتعيد التأكيد أنهم هم - المؤمنون الثائرون- من يستحقون الخلود في الذكرى . 

لكننا، ومما تعودنا عليه من حبنا للنهايات السعيدة نجد ان القصص تروى دائماً لتقول لنا: انتصرنا. والتاريخ يحكي فقط عن المنتصرين والفاتحين، لا عن الشعوب المقهورة التي رزخت تحت حكم ذلك المنتصر المؤيد. طبعاً هناك استثناءات في كتب التاريخ عما قلت، وهذه الاستثناءات هي القاعدة، فالكتب تزخر بالقصص والحكايا عن الخروج على الحاكم والقتل والتنكيل والبذخ للحكام مع ما كان يقابله من المجاعة والفقر المدقع الذي تحتملته الشعوب، لكننا اخترنا ان نتذكر ونذاكر ونسرد الماضي والتاريخ على أنه انتصار فلان وعدله وفتوحاته، وتجاهلنا عن قصد، او عن قصور، او عن طبيعة بشرية، تجاهلنا الشعوب التي جعلت ذلك ممكنا.

اليوم نحن، انا وانت ،هم الشعوب التي ستعيش على الهامش في صفحات التاريخ الذي يحدث اليوم، وكل ما قدمناه وحاولناه وانجزناه او ساهمنا به، ليكون الحاضر ممكنا، سيصبح في طي صفحات الماضي ولن يعرفنا أحد، بل سيذكررون هؤلاء الحكام فقط . وستكون حصص التاريخ للاحفاد في المستقبل مثيرة وممتعة حين لا تذكر شيء عنّا. 





على الهامش- من الطريف ان يلتقي علي الوردي مع سيد قطب في الخاطرة، وهما من نفس الحقبة الزمنية لكن على النقيض فكرياً.



 

No comments:

Post a Comment