Thursday 7 October 2021

أرجوحة ‏اللغة

(كلام عن جمال القول) 


أحب اللغة، العربية خصوصاً لكن أي لغة، حين تستطيع الكلمات ان تكون أرجوحة تحملك بين الأرض والسماء، تحلق عالياً فوق المفردات التي لم تتخيل إنها اذا صُفَّت هكذا صارت غيماً وسهلاً وشمساً وأشياء أخرى...

دعني أوضح لك:

يقول امرؤ القيس :
مكر مفر مقبل مدبر معاً، كجلمود صخر حطه السيل من عل


عمرك ركبت خيل؟ عدا عن لفة على الحصان في مناطق السواح بدينار او اثنين، أكيد لا. اذا انت مثلي، وعندما أقرأ بيتاً كهذا أتخيل ذلك الفرس الأصيل، ممشوق القوام، قوي العضلات، سريعاً كأنه صخور تنهال من فوق جبل ضخم، يصيبني الرعب من هول المنظر، وتتملكني رغبة جامحة بإمتطاء هذا الجموح، وهنا الأرجوحة.. 

وقال المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي *** وأسمعت كلامتي من به صمم
عمى، بصر، صمم، سمع، واضحة! 


وقال البرغوثي 
لستم بأكفائنا لنكرهكم, وفي عداء الوضيع ما يضعُ

نعم، بلدي محتل، قريتي نُسفت، أهلي هُجّروا، والعدو يفتك بشعبي، نعم نحن في الحضيض، لكن هذا العدو ليس نداً لنا، ولا يستحق حتى أن نكرهه، فكرهنا وعدائنا له يرفع من قيمته، ونحن في القمة، وبين القمة والحضيض أنصب أرجوحتي... 


ويقول عدنان الشبول (ليس لأنه صديقي، ولكن لأني أحب الترنح فوق قصائده) 

وفـردْتُ أجـنحةَ الحروفِ محلِّقًا ... حولَ الحقيقةِ وارتضيتُ عذابي
الحروف ترابطت، فصارت كلمات، والكلمات ترابطت وصارت قصيد، فطار القصيد محلقا، لكن طيرانه لم يبعده عن الحقيقة المرة التي أطلقت هذه المشاعر، فلا الطيران أبعدنا عن همومنا، ولا التحليق رفعنا عن الأرض التي نحن منها واليها، وبين التحليق ومرارة الهبوط تتحرك الأرجوحة.. 



ويقول السياب
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر .
ارض السواد: العراق، أرض الطيبة والجمال. غابات النخيل تملأ المدى في عتمة الليل، والقمر يُضفي بياضاً خفيفاً فوق هذا الهدوء الساحر، فلنرتحل هناك باحثين عن الجمال، جمال العيون السود، وانت تجلس امامهما على شرفة، تمتد منها أرجوحة، تصلك بالوطن، بالعيون، بالحب، بالليل، بالسكون التام قبل انحلال عقد الليل الأخيرة، وفي داخلك تتفجر المشاعر وفي ليل العراق الهادئ تتضرم نيران الثورة، هل أنت مستعد، إذا فليسقط المطر...
 

أظن وصلت الفكرة، لكن أضع مقتطفات أخرى دون شرح.. 
يقول أحمد شوقي:
دخلتك والأصيل له إئتلاق ووجهك ضاحك القسمات طلقُ


وغنت فيروز:
لمّا بغني اسمك، بشوف صوتي غِلي، ايدي صارت غيمة، وجبيني عِلي..

ويقول حميدي الثقفي
اصرخ ولكن تحتضن صوتي اقواس 
وجمرة قلم مرتد تشعل كفوفي ...
كل ماتكسر للقلم بيدرالماس 
حدر السنابل تورق اغصان خوفي



وغنى سميح شقير
بيني وبين أهلي وناسي رمية حجر
جمحة فرس
خطوة فوق شريط وخطوة
فوق خوذات الحرس


وهكذا أنا دائماً، أتأرجح بين مفردات اللغة، أعيش بين الإستعارات والتشابيه، فلا أشبه نفسي ولا تشبهني، لكن كلام الشعراء يشبهني، يُقربني إلى نفسي، إلى آناي. 

1 comment:

  1. مبدع كالعادة..بالتوفيق يا باشا

    ReplyDelete