Sunday 10 October 2021

العامرية ‏



في حديث ماتع ممتع مع الأصدقاء محمد هنداوي ومحمود أبو فايد، ذكرا الفنان نصير شمة وعمله الإبداعي المسمى العامرية (والصديقان عازفان، وانا ناقد) ، وكيف أنه جسّد الحدث من خلال معزوفة رائعة. وذكرا أيضاً ومن باب المفارقة، ان شخص مصري إعتقد أن العمل عن قصة حب، وليس مجزرة العامرية. قلت ربما هذا من باب الإبداع، وليس الكل قد سمع بقصة الملجأ، لكن الموسيقى حررت من سمعها ليحلم بما يريد، فذاك بكى على قصة الحب، وآخرون بكوا دم الأبرياء في الملجأ والموسيقى واحدة.. 






سهرت طيلة الليل مع هذه الفكرة، قصة العامرية مع الملوح، وقصة ملجأ العامرية، المجزرة التي راح ضحيتها ٤٠٠ من الأبرياء، وأسطورة الحب الخالد التي لا زال الناس يحكونها و يبكونها. هل هناك تشابه؟ قلت لما لا، قد يكون، وها أنا أروي لكم ما حدث كما أخبرني به قيس:

الثلاثاء ١٢ فبراير ١٩٩١..
خرجت أمشي، لم أدر أين أذهب، كنت أريد الهرب، مللت الموت وإنتظاره، فأطلقت لقدمي العنان لتذهبا حيث شائتا، فالموت في كل مكان، وهذه السماء لم تُنزل علينا سوى الحمم والهلاك. وجدت نفسي في العامرية، متى كنت هنا أخر مرة؟ لم تكن الشوارع مزدحمة، فالسوق ليس فيه إلا فاقدي الأمل مثلي، أو من إضطرته الحاجة إلى تحدي الموت. 
من بعيد رأيت طيفاً حسبت أني أعرفه، إزدادت خفقات قلبي وتحشرج صوتي، نعم إنها ليلاي، هناك بعيداً، نسيت الموت المحلق فوقنا كالصقر وظننت أني رأيت السماء تنفرج عن قوس قزح. أردت أن أصرخ إسمها وأجري نحوها، لكن، تمالكت نفسي، شاهدتها تمسك طفلتين بيدها! سِرتُ ببطء نحوها وحين أدارت رأسها رأتني، شهقت كمن رأى طيف ميت: قيس؟ 
قلت : نعم
قالت: أنت حيّ... أين كنت؟ 
قلت في الأسر في إيران إلى قبل سنتين... وأنت، تزوجت وأنجبت بعد فراقي؟ 
قالت، بعد أن مسحت بأطراف البنان مدامعها، لا لعمرك ،انتظرتك حتى ملنيّ الإنتظار! 
قلت: والأطفال؟
قالت: مريم، وفاطمة، أيتام، نذرت نفسي لتربيتهم. ألم يكن حلمك أن تنجب بنات كثر ليعمروا العراق بالحب بدل الدم الذي لطخه لقرون؟ 
أردت أن أرقص فرحاً، لكن الرقص في وطني في المأتم فقط، أن أطير عالياً، لكن الطيران في بلدي لقاذفات الصواريخ. بكيت، فنحن نبكي حين نفرح، ونبكي حين نحزن. 

وفي لحظة إنطلقت صفارات الإنذار، لم أدر ما أفعل، قالت: دعنا نذهب جميعاً إلى الملجأ، ملجأ العامرية... 
دخلنا الملجأ الذي بدأت أفواج الحجيج تلجه، شيوخ، نساء، أطفال، وأنا وليلى وهذا الليل، والليل ملحُ.
الخوف في الخارج يتساقط من طائرات التحالف ليصل الأرض حمماً ويصعد إلى السماء موت. ونحن نجلس في الملجأ ننتظر الفرج، أو الهلاك، لا ندري من يصل أولاً. أردت أن أحلم بغدٍ جميل، بعراق يتسع لنا الأربعة، يعطينا ما فقدنا من عمرنا ويرسم شيئاً من السعادة على وجوه الأطفال.

تجاوز الليل نصفه، بعض المتقين قاموا ليصلوا قيام الليل، أردت أن أقف معهم لكن لم أدري ماذا أدعو؟ ولمن؟ وعلى من؟ فآثرت البقاء في مكاني بعدما أضعته لسنوات. ليلى نائمة، مسندة ظهرها إلى الحائط وفي حجرها تغفو مريم، أما فاطمة فوضعت رأسها على فخذي، وبدأت تلعب بجدائلها إلى أن غلبها النعاس.. استيقظت ليلى قبيل الفجر بلحظات فوجدتني مستيقظاِ أحرس حلمها من الواقع، ابتسمت لي وقالت لي: هل سنموت اليوم؟ قلت: أرجو أن نعيش.. قالت: لا أدرِ أيهما أفضل، أن نموت ونحن نيام، ولا نشعر بالموت يخطفنا، أم ننظر إلى الموت بأعيننا وهو يدخل من هذه الجدران ليحملنا إلى سيده.. قلت لها، أنت أجمل من الحياة وأجمل من الموت. 

ساد الصمت، لم يعد للكلام معنى. 

شعرت بجسدي يهتز، رأيت الموت على ظهر صاروخٍ يدخل الملجأ، يتجول بيننا، يبتسم، يضحك، ثم يبكي، فرحاً بلقائنا، فهو مثلنا يبكي في فرحه وحزنه. والآن أنا والعامرية معاً إلى الأبد، في سلام الموت بعد أن عجزت أن تتسع لنا هذه الحياة.. 


أحمد بكر 







اللوحة لعلاء بشير تجسد المجزرة


هذه الأبيات المنسوبة لقيس بن الملوح

ولما تلاقينا على سفح رامة 
وجدتُ بنان العامرية أحمرا 
فقلت خضبت الكف بعد فراقنا؟
فقالت معاذ الله ذلك ما جرى
ولكنني لما رأيتك راحلاً 
بكيت دمًا حتى بللت بهِ الثرى
مسحت بأطرافُ البنان مدامعي
فصار خضاباً بالأكف كما ترى



1 comment:

  1. سهرة ماتعة و حديث شيق
    و رحم الله شهداء العامرية
    و هنيئا لقيس الذي ظن ان لا تلاقيا
    ف ها هو الموت يجمع لا يفرق كما كنا نعتقد

    ReplyDelete