Wednesday 19 January 2022

الترجمة وعجز اللغة

 

(هذه المقالة عن كلمات محددة: أمي، ليفة، مطيع وقحبة) 

لا شك أن قراءة أي كتاب بلغة غير لغته الأصلية تؤثر في النص، المعنى، والمتلقي. غالباً ما يكون هذا التأثير سلبي، حيث أن الترجمة تسرق شيئاً من المعنى، تمحو الموسيقى من اللفظ، وأحياناً تُغيير المقصود من النص.

قرأت منذ سنوات مقالة مطولة في النيويوركر عن تأثير واختلاف الترجمة على إفتتاحية رواية ألبير كامو "الغريب". أول جملة في الرواية، وحسب الترجمة العربية التي قرأتها:
اليوم ماتت أمي، أو ربما البارحة, لست متأكداً.

المقالة كانت عن إشكالية ترجمة لفظة أمي، وما هي الترجمة الأفضل للكلمة الفرنسية التي إستخدمها كامو.
الترجمة الإنجليزية الأشهر التي علقت عليها المقالة هي:
“Mother died today. Or maybe it was yesterday, I don’t know.”

امي، ليست كلفظة

 

mother

 

ربما كان الأجدر إستخدام لفظة الوالدة، لأن كامو أراد أن يُظهر برودة مشاعر بطل الرواية، ولفظ "أمي" مليء بالحنان، بينما الوالدة فيه شيء من التكلف والرسمية.
لكن المقالة رأت انه من الأنسب استخدام اللفظة الفرنسية 
Maman. هذا في النص الانجليزي) ) 
لأنها الوحيدة القادرة على إيصال فكرة كامو حول اللحظية والمشاعر. 

في قرأتي لرواية الأخوة كارامازوف استوقفتني الترجمة عدة مرات، خصوصاً مع سهولة الوصول إلى نصوص/ تراجم مخلتفة. في المحاكمة، وحين كان محامي ميتا يسأل غريوري، وفي سؤال استفزازي قال المحامي للخادم العجوز: هل تستطيع أن تخبرني عدد الأصابع في يدك؟ فجاوب الخادم، وهنا سأدرج أربع ترجمات وجدتها:
أنا رجل أحترم السلطة
أنا إمرؤ تعودت أن أطيع
I am a servant
I am not a free man






 

لا شك أنها أربعة ردود مختلفة تماماً، ولا أدري أيها أقرب للنص الروسي، وما أراد ديستوفسكي أن يوصله للقارئ.

في نفس الرواية مرة أخرى واجهتني مشكلة الترجمة، فالضابط الفقير رفض بيع كرامته بمئتي روبل وقال لأليوشا ساخطاً :
ليفة الحمام لا تبيع شرفها.

هذا النص كان نفسه في التراجم المختلفة، وقد استغربت اللفظ ولم أفهم الدلالة، تمنيت أن أعرف معنى هذا التعبير في اللغة الروسية وأهميته. في ذهني بحثت عن تعابير بالعربية قد تكون لها نفس المعنى، لكن، عجزاً مني لم أجد.

هذا الاختلاط و الاختصار والنقل الحرفي في الترجمة موجود ومكرر، وهو دائماً يحفزني ويستفزني، لكني أتفهمه. حاولت مراراً ترجمة نصوص شعرية بين العربية والإنجليزية ودائماً ما أنتهي ببحث مطول عن ترجمة جاهزة أستطيع فيها تبرير عجزي لوم غيري على التقصير.

الأسبوع الماضي قرأت رواية شجرتي، شجرة البرتقال الرائعة للأديب البرازيلي خوسيه ماورو دي فاسكونسيلوس. العنوان بحد ذاته يبرز مشكلة الترجمة، فالعنوان

 



In Portuguese: Meu Pé de Laranja Lima
مترجم للانجليزية هو
My sweet orange tree

وترجمة، أو بالأصح عدم ترجمة الأسماء في هذه الرواية تركت أثراً سيئاً، فالطفل يملك خيال واسع ويعطي اسماء خاصة لكل شيء، ومن الواضح أن لهذه الأسماء دلالتها. لكن بقائها حبسية لغتها جعلها خالية من المعنى.
أكثر ما أزعجني هو كلمة ق! المترجم، أو ربما الناشر، لم يرغب بطباعة كلمة نابية قالها الطفل وهو غاضب لأخته الكبرى. الكلمة لها أهميتها ودلالتها، لأن الكاتب وهو هنا يتحدث عن طفولته، وضع فصلاً في الكتاب يسرد فيه تلك الحادثة وما فعله أهله به بسبب ما قال. لا أدري ماذا تعني "ق"، ولماذا قام أهله بضربه وحبسه في البيت بسبب "ق". كل ما أفهمه أن المترجم، أو الناشر، إعتقد أنه ولي أمري وأمر الطفل 
ولم يرغب أن أقرأ كلمة نابية مثل قحبة.

 

هذه طبعاً ليست المرة الوحيدة التي أجد أن  الناشر (أو المترجم) حذف جزءاً من النص، قد يدعي الحاذف أنهم فعلوا ذلك حفاظاً على الحياء العام، أو تديناً، وهو قمة الإهانة وقلة الأدب من وجهة نظري، لأنك تحتكر وتهين الأدب بحجة الأدب!

قراءة الأدب المترجم تفتح أمامنا ثقافة الشعوب وخزائن الأدب العالمي. في كل مرة أقرأ كتاب بغير لغته الأصلية ألتقي بحضارة أخرى، أتعلم الكثير عن حياة وثقافة وهموم بشر لم يكن بالممكن مقابلتهم. لكن هذا اللقاء رهين مهارة وأمانة المترجم.



أحمد بكر



1 comment: