Thursday 27 June 2013

وجع الكتابة


لماذا أكتب:
لكي لا أختنق!

كنت في صغري, حين يَتَملَكني الحزن والغضب, أكتب! أشعر بالكلمات تتقافز في صدري  أُحسُ قلبي يخفق بالكلام لكنها لا تصل إلى فمي, تخاف الظهور, تحتجب!  تتواصل ضربات قلبي ومع كل ضربة يضيق صدري بما فيه, صوتي لا يغادرني, يصرخ في داخلي تِلكُمُ الكلمات ولكني لا اسمع إلا حزني, غضبي, وقلبي.
أُمسك القلمَ وأبدأ بالخَطِ على الورق فإذا بكلماتي تتسابق لتصل أطرافَ اناملي, كل كلمة تسلكُ نفس الطريق, حارةٌ وحارقةٌ, أستشعر سخونتها وهي تتدفق في شرايني, تلسعني وهي تتسربل مني إلى الورق!

كم هي متعبةٌ الكتابة, لا يساويها إلا وجع الولادة.

انظر الى الصفحة فأرى نفسي, كلماتي طازجة, حديثةُ العهد بقلبي, هذا نِتاجي, وليدي, غضبي وحزني, ماثلٌ أمامي.

احتفظ بالورقة ليومٍ او يومين, لا يقرأها سواي, أُخفيها كما لو أنها جريمة, ربما كانت المشاعر جريمة, او التصريح بها هو الجريمة. أُعيد قراءة ما كتبت, إلى أن أملَّه! أخذ ورقتي وأُحرقها, بما فيها من حزنٍ وغضبٍ وكلمات. أقول في نفسي أحياناً لن أكتب مرةً أخرى, وأحياناً أقول لن أحرق مرةً أخرى.

بعد سنون من الخط والحرق اشتريت دفتر, وصارت الكتابة واجبة, في الحزن والغصب واوقات الملل. وريقاته تناديني دائماً وانا بين صدٍ ورد, بين كتابة وتسطير كلام, وإعراضٍ عن الصفحات وإغفال. الشيء الوحيد الذي إختلف أني لم أعد أُحرق الورق, فقط نفسي من يحترق.

قال لي صديق أنّ رجلاً أحب إمرأة إلى حدِ الجنون, وهي عنه معرضة, وبعد أن ناله اليأس من الوصول إلى قلبها, أراد لها الخروج من قلبه: فكتبها! قلت : إذا أكتب نفسي..

لولا ان الكلام يعاد لنفد... 
انطق الحروف فتصبح كلمات، ارتب الكلمات فتصبح عبارات، أصُفّ العبارات فتصبح عَبَرات، أنشر العبرات فيقولوا مجنون..

اخلق حروفي من عدمي، وعدمي يتساوى مع وجودي, فالعدم والوجود ضدان, يُكملُّ احدهما الآخر, وكل شيء في حياتي متضدات: الكتابة والصمت, الحياة والموت.

 أُزين كلماتي من دمنا، دمُ الفلسطيني المُسال المُشاع، دم العربي المُشبعِ بالاحزان, دم الانسان في كل مكان.
 
أصدح بعباراتي على مسامعي، فأنا رغم صممي الا اني مستمع جيد، تُحرقني ولا أحرقها.
انشر الكلمات حتى لا أموت ُبها, فيقرأوا عبراتي في حفل موتي، وموتي كما كل من في الشرق، يحدث كل يوم... 

كل الكلام يوجعني، لكن الصمت يقتلني.......

Tuesday 25 June 2013

كلمة


أنا كلمة، مجموعة أحرف خُطت على سطر، وفي زحمة الكلام تهت. أبحث عن مكان لي بين كل هذه الكلمات، لا أستطيع الوقوف هنا الى جنب كلمة "دم"، ولا هنا حيث تعيش "فوضى" خراب" دمار"، لا أجد متسعا بالقرب من "حب" رغم ان غالب من يقف بجانبها من كلمات هي "نفاق" زعل" خصام" كذب" هموم".
أنا كلمة، مجموعة أحرف تاهت عن معناها ومبتغاها، وفي إكتظاظ الكلمات حولي لم أجد الا الهامش لأعيش فيه، منتظرا اما القلم ليضيف علي بعض احرف لأتزين بها، او الممحاة لأنتهي...


أمي

خيط رقيق يفصل بين الموت والحياة، موتها وحياتي!

 2012 /07/025:كتبت 
حدثت السبت: 25/07/2009




هل من الممكن ان اسابق الزمن؟ هذا ليس بسؤال يحتاج الى إجابة، بل حتمية علي فعلها. 

في الساعة الثالثة تماما استيقظت، لا رسائل او اتصالات على الجوال. اتجهت الى المسجد لصلاة الفجر، انصرفت سريعا بعد الصلاة، و رغم حاجتي الملحة للدعاء، فالوقت لا يتسع! أسرعت الى البيت، أكملت حزم حقائبي، إتصلت بحسان وأخبرته أنني في الطريق اليه. لم يكن جاهزا حين وصلته فاضطررت للانتظار بضع دقائق. لا شيء على الجوال، لا اتصال او رسائل، عسى أن يكون خيرا.

انطلقنا الى محطة القطار، تبعد ما يقارب الساعة والنصف، لا يزال الوقت باكرا ولا ذكر للازمة. أعرف أن الاكتظاظ سيبدأ بعد قرابة الساعة، لا أستطيع أن أخاطر ولا مجال لأاضاعة الوقت، ما الوقت؟

بدأ الصبح يتنفس، الشمس تتسلق الافق والنهار ينتشر ببطء جميل، ذهني
 مشوش تماما ولا أجد أي متعة في المنظر. لا رسائل على الجوال ولا اتصالات، ما يطمئنني أن الموت غالبا ما يتسلل ليلا حينما نكون أقل انتباها، إذا بزوغ النهار يعطيني أملا أطول في الوصول قبل الموت، فليستمر النهار ما أمكن!

السيارة تعب الطريق عبا، السرعة القصوى سبعين ميلا وانا أمشي بين التسعين والمئة، أنظر الى الافق واتمنى ان أصل في لحظة. فجأة بدأ الدخان يتصاعد من عادم السيارة وتوقف المحرك. اتجهت بالسيارة الى جانب الطريق الى أن توقفت تماما. تشكلت بقعة زيت كبيرة تحت مقدمة السيارة، لم تعد تستجيب للمفتاح، ماتت السيارة؟ هل ممكن ان يكون لهذا معنى؟ هل هناك دلالة؟ لا أريد أن أعرف، كل ما أريده هو الوصول الى محطة القطار.

تركت حسان الى جانب السيارة وبدأت الابتعاد عنه الى ان قطعت بضعة مئات من الامتار. لا أريد أن يظن أحد أني أريد المساعدة مع السيارة، بدأت بالاشارة للسيارات أملا أن يتوقف أحدهم، وفعلا توقف رجل لا يتحدث الانجليزية، لم يفهم ما أريد ولا أنا عرفت ما يقصد، لكن ركبت. مشينا لحوالي الميلين الى ان وصلنا الى محطة وقود، توقف وأشار لي بالمغادرة. شكرته ونزلت راكضا الى السيارات المصطفة وعند اول سيارة توقفت، وفي عجالة قصصت للرجل أحداث يومي ورجوته أن يساعدني وعرضت عليه المال، نظر الي بتمعن، تفحص حقيبتي ومنظري، قال اركب، سأوصلك. تسألت في نفسي لو أني مكانه أتراني قدمت المساعدة أم إعتذرت، لا أريد أن أعرف.

وصلت محطة القطار، رفض الرجل أن يأخذ أي مقابل، شكرته بحرارة وركضت الى القطار. انتهيت من الاجراءات التفقدية ونزلت الى المنصة انتظر القطار. لا جديد على الجوال، لا رسائل او اتصال. 

تحرك القطار سريعا، وقفت في الممر، فتذكرتي (لاني اشتريتها متأخرا) لا تحمل رقم مقعد. لم أحتج، لا يهمني ان أجلس، كل ما يهمني هو أن أصل. بعد أن إقتربنا من النفق الواصل بين بريطانيا وفرنسا مر بي أحد العاملين وأشار الي بالتوجه الى الحافلة رقم خمسة حيث الكثير من المقاعد. ما ان وصلت حتى ألقيت ثقلي على الكرسي الوثير، كم كنت متعبا وارغب بالنوم. 
ما ان خرج القطار من النفق حتى رن الهاتف: ليس ما أظن وأمل وأحاذر، انه شهاب ليخبرني انه سينقل السيارة من جانب الطريق السريع، للحظة كدت أنسى ما قد حصل، كدت أنسى من أنا وما هو تاريخي. كل شيء بدا سرابيا مهملا، كل ما كان يهمني هو أن أصل قبل الموت، وكل ما عدا ذلك هو أحاديث مهملة...


وصلت الى بروكسل، تذكرت ان أغير الساعة الى التوقيت الاوروبي، إقتربت ساعة أخرى!

وصلت مطار بروكسل الدولي، الساعة تجاوزت العاشرة بقليل، موعد الطائرة في الرابعة. الكثير من الساعات، مطار، انتظار وانا الغريب الوحيد.
ماذا يمكن ان تفعل لملأ الوقت: 
القراءة، لم أستطع أن أقرأ صفحة واحدة من أي شيء. المصحف، كتبي التي في الحقيبة، الجريدة الانجليزية، لا شيء. انظر الى الاحرف والكلمات فلا أرى شيئا، أجبر نفسي غصبا ولكن بعد محاولات جاهدة أكتشف أني لم أتجاوز الا سطر.

القهوة، كم من القهوة تستطيع ان تشرب، كم من هذا السائل البني المر يستطيع الجسم ان يمتص؟ الكثير، هذا ما أثبته خلال ذلك الانتظار القاتل. ولكن لعنة القهوة انها تشعل الدماغ وتنبه الاعصاب، وأنا دماغي يدور كما محركات الطائرات حولي، أشعر بخلايا مخي وهي تدور، أشعر بالدم يتدفق في شرايين رأسي، أسمع كل ما يتحرك بداخلي، أكاد أجن!
أنظر الى الساعة على معصمي، تتحرك، ولكن ببطء شديد، ربما معطلة! أقارنها بالساعات الرقمية في المطار، الوقت متطابق، ولكن هي أيضا بطئة جدا. 

بعد الكثير من القهوة، الكثير من المشي وقياس المسافات في هذا المطار، وبعد العديد من المحاولات الفاشلة في القراءة، أنظر الى الجوال، لا شيء، لا رسائل أو إتصال. 

كوب القهوة: عشرين دقيقة، المشي بين لوحة الرحلات، ومن ثم الى كاونتر الملكية لا يأخذ أكثر من دقيقتين، والى بوابة المطار الخارجية دقيقة أخرى. قضاء ساعة واحدة يحتاج الى الكثير من المهارات والادوات، لكن هنا كل ما لدي هو الملل، وتربية الامل!

أجلس على الرصيف في الخارج أراقب المودعين، أكره أن يصحبني أحد الى المطار لتوديعي، تشعرني أني لن أعود! العجيب ان بعد كل هذا السفر والبعد لا زلت أعتقد أني سوف أعود!

لو انها ماتت فلا بد انهم سيؤجلون اخباري حتى أصل، لو أنها تحسنت اذا سيسارعون الى تطميني. لا رسائل، لا اتصال!

لا تزال الساعات تتأمر علي، الوقت يتباطأ أكثر وانا أشعر بذلك، أتسأل أتراه يحث السير مسرعا هناك بينما يتباطأ هنا؟ ربما، لا أدري وأخاف أن أتذكر ان إقتراب الليل يعني اقتراب الموت، لا أريد أن يقل إنتباهي، لا أريده أن يتسلل خلسة، ولكني لست هناك لأحرسك وهاهو الوقت يخذلني ويخونني.

ساعات طويلة تلك التي مرت وانا اقطع الوقت وهو يقطعني، ركبت الطائرة أخيرا. بعثت برسالة من جوالي لاقول اني في الطريق، لا رد! 
ربما انهم مشغولين، ربما لا يريدون أن يشغلون بالي. لو أنها ماتت، فلا بد أنهم سيتصلون، او يقولون شيئا، فالكل يعلم اني وحيد هنا أسابق الزمن. لا رسائل، لا اتصال.

لا أذكر من تفاصيل الرحلة سوى اني ركبت الطائرة وجلست أنظر الى الغيوم، لا أدري أي المدن حلقنا فوقها، ما شكل الارض تحتنا، ما الطعام الذي قدموه، ماذا عرضوا من برامج، من كان يركب الطائرة معي، لا أذكر أي شيء. 

ركبنا، جلست، وبدأت أحاول أن أتذكرها، ملامح وجهها، صوتها، طريقتها في الكلام، بكاءها، ضحكتها، أي شيء. كلما حاولت ان أتذكرها أجد وجهها بلا ملامح، كلامها بلا صوت، سكون مطبق. كنت أرغب في البكاء، لم تمنعني وحدتي، ولا نظرات الغرباء الي، لم يمنعني الا معنى دموعي، فمعنى ذلك أن الموت سبقني واني هُزمت.

وصلت الى مطار الملكة علياء، أسرعت بالخروج قبل الجميع. عاودت النظر مررا الى جوالي، لا شيء، لا اتصال ولا رسائل.

 جررت حقيبتي مسرعا الى البوابة، تفحصت المنتظرين سريعا علي أرى وجهها بينهم، كانت دائما تستقبلني حين أعود، لمن سأعود بعدك. لا أثر لها، بحثت في الوجوه عمن أعرف، رأيت عبدالله يقف بعيدا، شعرت بالدموع تتدفق الى عيني، لما أتى وحيدا، أين الاخرون؟ لا بد انها ماتت، لا بد أنهم يبكونها سوية هناك، بينما انا اتقاطع مع نفسي في رحلتي الطويلة الوحيدة. هل هزمني الموت، كيف استطاع ان يسبقني! امتلأت بالحزن وانا أقطع تلك الامتار القليلة الى ان وصلته، صافحته و لكي لا أضيع المزيد من الوقت، قلت والدموع في عيني وصوتي يتحشرج في صدري: كيف هي؟ لم أستطع أن أقول: هل ماتت!


Saturday 22 June 2013

إلى صديق لا يعرفني

التقينا صدفة, أصر الجابري على ان نجلس أمامه وبدأ يقرأ من ديوان محمود درويش الجديد( احد عشر كوكباً).

كنت اعرف محمود درويش كأي فلسطيني او عربي, لا احفظ شيء من شعره ولكن من منا لم يسمع ب "سجل انا عربي" او "احن الى خبز أمي" !

كنت محبا للشعر, احفظه واقرأه بنهم, ولكن الشعر العامودي فقط. لم اكن من محبي الشعر الحر, كنت اعتبره عجزا عند الشاعر في اللفظ والقدرة على ركوب خضم الشعر العامودي.
لا انكر انني انسجمت معه بسرعة, شدني مطلع القصيدة :

 أتعلم يا ابي ما حل بي
لا باب يغلقه علي البحر
لا مرأة اكسرها لينتشر الطريق امامي
حصى او زبد..

هل يتحدث عني, لكنه لا يعرفني! لم نلتق يوما واحداً رغم ان المكان جمعنا مرات عديدية, في بيروت ودمشق وعمان, ولكن لم نلتق, فهل من المعقول انه يتحدث عني...

بعد هذه البداية تهت عن باقي القصيدة, استمر عدنان في القراءة وانا في السرحان, تجتذبني كلمة وتلفظني أخرى, اقفز من فقرة إلى فقرة فلا انا في القصيدة ولا انا خارجها!

 والبحر هذا البحر لا يحتله احد
سأمشي فوقه وأطحن ملحه وأسك فضته بيدي

 بدأت اجترُّ الذكريات, أعود بمخيلتي, متى جلسنا, متى التقينا, متى تحادثنا, متى اجتمعنا, لم اجد شيء, لكن كان الكثير يجمعنا.. فهو يتحدث عني, عاودني التركيز وعدت إلى القصيدة

 أتى كسرى وفرعون وقيصر والنجاشي وأخرون
ليكتبوا أسمائهم بيدي
فكتبت لإسم الارض وأسم الأرض الهةً تشاركني مقامي
 في المقعد الحجري
 فأنا لم أذهب ولم أرجع مع الزمن الهلامي
 وانا انا ولو انكسرت رأيت ايامي امامي


 هل قلت اني لم التق بدرويش, نعم اظن اني ذكرت ذلك, ولكن الشك اصبح يشبه اليقين, اما اننا التقينا وتحادثنا او ان اكون انا من كتب هذه القصيدة, رغم اني لا احب الشعر الحر خصوصا, ولا اكتب الشعر عموماً !


هكذا كان لقائنا صدفة, واستمرت العلاقة وترسخت, جمعني شعره بأصدقاء جدد, مارسيل خليفة, سميح شقير,
 ازددت قربا من فيروز,
ازددت حبا لفلسطين,
ازددت ادمانا للقهوة
أصبحت اقرب لنفسي
اصبحت أكثر حزناً..

ومثل كل العلاقات الإنسانية, تغيرنا. جرى الزمان بنا, ابتعدت مرة أخرى عن الشعر بمجمله, اخذني الشغف بالقراءة إلى علومٍ أخرى وأصحاب جدد.

كنت اتفقد درويش بين الحين والآخر, اجده يزداد سوداوية ورمزية, يبتعد عن "الانا" الفلسطيني التي جمعتني به, ويستطرد في "الانا" الإنساني او "الانا" الشخصي, والاثنان اكرهما: اكره نفسي, وهذه الإنسانية التي اوصلتني إلى هذا الكره.

وانا أيضاً لا احب اخذ النصح من الاخرين, ولا اقبل الاوامر من احد, وشِعره وان كان صديقي فهذا لا يعطيه أي حق بالإملاء علي! واعتقد انه ادرك ذلك, فكتب لي معتذرا:

من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟
وأنا لم أكن حجراً صقلته المياه
فأصبح وجها
ولا قصبا ثقبته الرياح
فأصبح نايا..
أنا لاعب النرد
اربح حيناً.. وأخسر حيناً
انا مثلكم او أقل قليلاً..


لم يكن هذا هو السبب الوحيد الذي اعاد الصداقة إلى ما كانت عليه, فرغم تباعدنا الا اننا لم نفترق, كنا معا دون ان نشعر, كان حاضرا رغم غيابه, كان كالظل!

لا ذكر ولا أنثى
يتبعُني، ويكبرُ ثُمَّ يصغرُ
كنت أمشي. كان يمشي
كنت أجلسُ. كان يجلسُ
كنت أركضُ. كان يركضُ
قلتُ: أخدعُهُ وأخلعُ معطفي الكُحْليَّ ...
قلَّدني، وألقي عنده معطفَهُ الرماديَّ...
قلتُ: أخدعُهُ وأخرجُ من غروب مدينتي
فرأيتُهُ يمشي أمامي ...في غروب مدينةٍ أخرى...


كيف نهرب من هذا الشيء, من هذه اللعنة, من هذه التعويذة التي نلبسها في كينونتنا الفلسطينية والعربية! كلما انهزمنا, كلما اشتد حصارنا, كلما سقط طاغية او انتصر طاغية, كلما مرت من امامي جنازة شهيد.. تعود الذاكرة الى هذه الكلمات..
فمديح الظل العالي لم تقتصر على بيروت, بل امتدت إلى بغداد, والآن في دمشق. وملك الاحتضار كانت حاضرة في كل الاتفاقيات من كامب ديفيد إلى شرم الشيخ.. واللقاء كان يتجدد مع تردد ابريل, مع رائحة الخبز في الفجر.. والحنين إلى الام حاضر في كل لحظة, والحب يتجدد كلما طار الحمام او حط الحمام..

عندما امشط الذاكرة أُيقن اننا لم نلتق, ولكن عندما أقرأ كلماته أعرف اننا لابد اجتمعنا في مكان ما, انا وهو, في مقهى باريسي, او على شاطئ بحر بيروت, او تحت الشجرات الثلاث الوحيدات إلى جانب البئر, او على أبواب غابة السنديان.. جلسنا معا وتناولنا القهوة معا, فكلانا يحبها بنفس الطريقة, وكلانا يحب ان يصنعها بنفسه.. وتبادلنا الحديث عن الذكريات, عن الوطن, وعن الحبيبة.. ثم قمنا ومشى كلٌ منا إلى موته- همه- حلمه!

عجيب انت يا صديقي-  كلما ازددت حزنا ازددت جمالاً!





Friday 21 June 2013

غولدا مائير ومحمد عساف

تعلمت ضمن ما تعلمت ان احترم اعدائي، لذكائهم ولاصرارهم على الوصول الى ما يريدون! .

 عندما أقرّت غولدا مائير عملية اغتيالات للعديد من الشخصيات السياسية والثقافية والادبية الفلسطينية لم يعرف الاسرائيليون متى ستثمر هذه العمليات ثمارها؟

لم تبدأ القصة بإغتيال غسان كنفاني، ولم تتوقف عند كمال ناصر ولم تنتهي باغتيال ماجد ابو شرار. القصة بدأت عندما أيقنت اسرائيل ان قوة الثورة ليست فقط في اليد التي تضغط على الزناد، بل في اليد التي تمسك القلم وتُذكّر الشعب بوطنه.
قوة الشعب في ثقافته، في قدرته على التأثير وقدرته على الاستمرار حاملا الهوية، هذا ما عرفته اسرائيل عن هذا الشعب فارادت ان تصيبه في مقتل، فقتلوا المثقفين وعلى رأسهم غسان كنفاني، عسى ان مات من يُذكر الفلسطينيين بفلسطينيتهم ماتت فلسطين!
"فلسطيني حتى أطراف أصابعك , فلسطيني حتى الحماقة, وهذا هو مجدك إذا كان المجد يعنيك. تسلم على السائح, فتصيبه عدوى فلسطين . تقبل امرأة فتصير مريم المجدلية . تعانق طفلا, فيستكمل طفولته في إحدى قصصك . وهذا هو مجدك إذا كان المجد يعنيك . من أنت؟ غامض وعاجز عن الاجابة. فكلما اشتد وضوحك اشتد غموضك , لم تمتشق قلما ... لم تمتشق بندقية .. لم تمتشق إلا دمك ."
(محمود درويش: من يرثي بركان -غسان كنفاني)


واستمرت عمليات الاغتيال وازداد اصرار غولدا مائير -رغم موتها- واسرائيل على تصفية القضية، وتصفية من حملها هما وزرعها كلمات على شفاه الناس، وكلما انتصب قلم اصابه الرصاص، كلما وقفت الكلمة في وجه الموت دهسها الموت ومضى، وكانت كل الضربات قاسية موجعة للانسان، اي انسان، وللفلسطيني الذي لم يولد بعد، الذي لم يعرف بعد كيف يبني حجرا من ارضنا سقف السماء. ارادونا مثلهم، عابرون بين الكلمات العابرة، فقتلوا اصحاب الكلمات، وقتلوا ماجد ابو شرار.
صباح الرفض يا شعبي
صباح الرفض
قم انهض وصب النبض
في جسدٍ قتلناه وسميناه الارض
....
غولدا مائير ماتت من زمن، ولكن رؤويتها لم تمت، حلمها وما ارادت ان يستمر، استمر. اما نحن وبعد ان دخل كُلٌ الى جرحه وتوانى الزمان عن العودة الى دورته الطبيعية، فقد تعامينا عن حُلم غولدا مائير عندما رأيناه يتحقق، واستبدلنا ثقافتنا المكتوبة والمحكية باغنية في برنامج رقص..
مبروك للعرب صنمٌ جديدٌ ليُعبدْ
فعسى في حبه نتوحد
وعسى قضيتنا بالرقص والهز والطرب تتجدد
وعسى جولدا مائير في قبرها ترى ما صار
ولعلها تضحك لنصرها ولجهدها الذي ما تبدد
 اما شهدائنا، من مات ويده على القلم
من مات صارخا في وجه الرصاص
من دفع من دمه الثمن
من علّم العالمَ كتابة اسم فلسطين
من  مزق صوته صمت العدم
اقول
لم تموتوا انتم, نحن من فقد الحياة
و انتم روحا ابدية الالم..
مبرك للعرب معبودهم، مبروك لغولدا مائير نصرها، اما انا الفلسطيني وقد امتلئت بكل اسباب الغياب، فانا لست لي
انا لست لي
انا لست لي




Sunday 16 June 2013

من سجن عكا...

 "نحمد الله على اننا نحن الذين لا اهمية لنا نذهب فداء الوطن، لا اولئك الرجال الذين يستفيد الوطن من جهودهم".

كانت تلك كلمات محمد جمجوم, احد الشهداء الثلاثة يوم الثلاثاء 17/6/1930 يوم تنفيذ احكام الاعدام التي صدرت بعد أحداث البراق عام 1929.
لم يبدأ الجهاد في فلسطين يومها, ولم تنتهي قوافل الشهداء حينها, ولكن وبعد ثمانون سنة من هذا القول ننظر لنجد ان من بقيى ليزعم أنه صاحب القضية قد باع تراب الوطن, وتضحيات الشهداء, وحقوق الشعب المُهجّر في أنحاء المعمورة. ومؤخراً كانت البقية الباقية يُطرزون إحدى تفاهات العرب بنيشان الأسرى والمعتقلين ونضالهم.. 


رثا شاعر فلسطين - إبراهيم طوقان شهداء سجن عكا, وفلسطين كلها. وخرج الناس يومها يهتفون وينشدون قصيدة نوح إبراهيم التي غنتها فرقة اغاني العاشقين الفلسطينية.. 




لمّا تَعَرَّضَ نَجْمُك المنحوسُ وترنَّحت بِعُرى الحِبالِ رؤوسُ

ناح الأّذانُ وأعولَ الناقوسُ فالليل أكدرُ والنَّهارُ عَبوسُ

طَفِقَتْ تثورُ عواصفُ وعواطفُ

والموت حينا طائف أو خاطفُ

والمعْولُ الأَبديّ يُمْعِن في الثرى لِيردَّهمْ في قلبِها المتحجِّرِ

يومٌ أطلَّ على العصور الخاليَهْ ودعا أمرَّ على الورى أمثاليَهْ

فأجاَبهُ يومٌ أجلْ أنا راويُهْ لمحاكم التَّفتيش تلكَ الباغِيَهْ

ولقد شهدتُ عجائبا وغرائبا

لكنَّ فيكَ مصائبا ونوائبا

لم ألْقَ أشباهاً لها في جورِها فاسأل سوايَ وكم بها مِنْ منكَرِ

وإذا بيومٍ راسفٍ بقيودِهِ فأجابَ والتاريخُ بعضُ شهودهِ

أُنظرْ إلى بيضِ الرَّقيقِ وسودِهِ مَنْ شاءَ كانوا مُلكَهُ بنقودِهِ

بشرٌ يُباعُ ويُشترى فتحرَّرا

ومشى الزَّمانُ القهقرى فيما أرى

فسمعتُ منْ منعَ الرَّقيقَ وبَيْعهُ نادى على الأَحرارِ يا مَنْ يشتري

وإذا بيومٍ حالكِ الجِلْبابِ مُتَرنّحٍ من نَشْوةِ الأوصْابِ

فأجابَ كلاّ دون ما بكَ ما بي أنا في رُبى عاليه ضاع شبابي

وشهدتُ للسفَّاح ما أبكى دما

ويل له ما أظلما لكنما

لم ألْقَ مِثْلَكَ طالعاً في روعةٍ فاذهبْ لعلَّكَ أنتَ يَومُ المحشرِ

اليومُ تُنكرهُ اللَّيالي الغابرهْ وتظلّ تَرْمقُه بعينٍ حائره

عجباً لأحكام القضاءِ الجائرهْ فأخفُّها أمثالُ ظُلمٍ سائره

وطن يسيرُ إلى الفناءْ بلا رجاءْ

والداءُ ليس له دواءْ إلا الإباءْ

إن الإباءَ مَناعةٌ إن تَشْتَمِلْ نفسٌ عليه تَمُتْ ولَّما تُقهرِ

الكلُّ يرجو أن يُبكِّرَ عَفْوُهُ نَدْعو له ألاّ يُكّدَّرَ صفُوهُ

إنْ كان هذا عطفُهُ وحُنُوُّهُ عاشتْ جلاَلتُهُ وعاشَ سُموّهُ

حَمَلَ البريدُ مُفصِّلاً ما أجملا

هَلا اكتَفَيتَ تَوَسُّلا وَتَسَوُّلا

والموتُ في أخذِ الكلامِ وردَّهِ فخذِ الحياةَ عن الطرَّيقِ الأقصرِ

ضاق البريدُ وما تغيَّرَ حالُ والذّلّ بين سطورِنا أشكالُ

خُسْرانُنا الأَّرواح والأموالُ وكرامةٌ يا حسرتا أسمالُ

أوَتُبصرونَ وتسألونْ ماذا يكونْ

إنَّ الخداعَ له فنونْ مثْلَ الجنونْ

هيهات فالنفس الذليلة لو غدت مخلوقةً من أعينٍ لم تُبْصرِ

أَّنى لشاكٍ صوتُه أنْ يُسُمَعا أَنَّى لباكٍ دمعهُ أنْ يَنفعا

صخرٌ أحسَّ رجاءَنا فتصدَّعا وأتى الرجاءُ قلوبَهم فتقطَّعا

لا تعجبوا فمن الصخورْ نبعٌ يفورْ

ولهم قلوبٌ كالقبورْ بلا شعورْ

لا تلتمسْ يوماً رجاءً عندَ مَنْ جرَّبْتَهُ فوجدتَهُ لم يَشْعُر

https://www.youtube.com/watch?v=Z9_Yp4bkzZ0&feature=youtube_gdata_player

Wednesday 5 June 2013

الذكرى العاشرة, ولو عاد الزمن

من يومين كانت ذكرى وفاة والدي, الذكرى العاشرة. قبل الحادث بأيام اتصلت به قائلاً : شيء يُحيرني من زمن وأريد أن أسألك عنه؛  التحقتَ بالثورة الفلسطينية وبسبب قرارك نالك ونالنا الكثير من الاذى, اصابات حروب, تهجير ولعدة مرات, حكم بالإعدام, مطاردة وملاحقة ومضايقة من عدة أجهزة مخابرات في عدة دول. الا تشعر بالندم, الا تقول لو أني بقيت في مكاني لكنت وكان!
قال لي: لا, فعلت ما فعلت لإيماني بهدف, إيماني بحقي في وطن, لأجل الوطن, وكل ما قلت حدث وأكثر ولكن لو عاد الزمان بنا لإخترت نفس الطريق مرة أخرى..
كانت هذه أخر مرة تكلمت معه... اتذكر كلماته كثيرا وأنا اختار, وتذكرتها اكثر وانا اشهد ما يحدث في سوريا...