Tuesday 21 July 2020

ذاكرة ‏الجسد- ‏حول ‏النص

ذاكرة الجسد -
أحلام مستغانمي
إنها ليست رواية، بل قصيدة افترشت ٤٠٠ صفحة لترسم لنا أنفسنا، بلادنا، همومنا، أحزاننا، وما كان لنا من إنتصارات اكتشفنا أنها وهمية.


لماذا إحتاجت إلى ٤٠٠ صفحة لتنثر قصيدتها؟ ربما لأن مستغانمي مثل مدينتها قسنطينة: "تكره الإيجاز في كل شيء.
إنها تفرد ما عندها دائماً. تماماً كما تلبس كل ما تملك. وتقول كل ما تعرف" 

أكثر ما كان يدور بذهني وأنا أقرأ هذا العمل هو لماذا لم أقرأها من قبل؟ سمعت كثيراً عن الرواية ولكن لم أجد الحافز لقراءتها، إعتقدت خطأ أن ذاكرة الجسد ربما هو ايحاء جنسي، لذلك انتشرت الرواية. لكني سرعان ما أكتشفت أن" البعض يرتدي ذاكرته على جسده أمام كل من لا ذاكرة لهم" .

كنت أُقلّب الصفحات باحثاً عن نفسي في الرواية، ولأنني مليء بالتناقضات وجدت نفسي في كل شخوصها، خالد، زياد، حسان، حياة، وقسنطنية. لكن أكثر ما أثرّ فيّ هو ذلك النص الذي يشبه قصيدة نثرية لخالد في قسنطينة، حائرا متعجبا تائها في بلده، وإغرورقت عيناني وأنا أتذكر نفسي في عمان ودمشق قبل سنوات، أقف غريباً في المكان، أعرف تاريخه، أسماء الشوارع والدكاكين، حتى أسماء الحجارة أعرفها، وأعرف البشر الذين كانوا هنا وتركوا لنا أسمائهم للمجد والذاكرة، ولكني لا أشعر إلا بالغربة، كسائح يقف مشدوها في سوق مزدحم، لا أحد يشعر بما يشعر به، ولا أحد يفهم سبب دهشته، غريب عن المكان غريب عن الزمان، بعدها "رحت أؤثث غربتي بالنسيان. أصنع من المنفى وطناً آخر لي.." 



من عادتي وأنا أقرأ أن أدوّن في مذكرتي مقتطفات أجدها متميزة بلاغة او أدب. في أخر ما قرأت (سيدات القمر) فقرة واحدة استطاعت الوصول للمذكرة، وهذا ليس فريدا وليس بالضرورة انتقاص من العمل الأدبي، فأحيانا يكون جمال العمل الأدبي كقطعة كاملة، لوحة مبدعة ككل. في ذاكرة الجسد، وفي أول مئة صفحة انتبهت أنني أتوقف كثيراً عن القراءة لأنسخ نصاً منها إلى المذكرة، منمنة من فسيفساء، كل حجر هو قطعة فنية وبإجتماعها شكلت لوحة آخاذة. وكل ما ورد هنا بين علامات الاقتباس " " هو من الرواية. 


كثير من الأعمال الأدبية أحببت ورسخت في ذهني وأقارن بها الأعمال الأخرى، لكن هنا وجدتني أبحر في كاتدرائية إحتوت في داخلها الكثير مما أحب; فأحلام مستغانمي تصف قسنطينة في أحد النصوص وتذكر ما مر عليها من محتلين، نص مطابق لقصيدة محمود درويش (من المفضلة لدي) على حجر كنعاني في البحر الميت، لكن ذاكرة الجسد كتبت قبل القصيدة، وديوان أحد عشر كوكب طبع قبل ذاكرة الجسد. وفي اخفائها اسم البطلة، وأسماء أخرى وتذكيرنا ان الشهداء فقط هم من يستحقون ان نذكرهم بالإسم، هذا ما فعله إبراهيم نصرالله في أكثر الروايات قرباً إلى قلبي: مجرد ٢ فقط، مصادفة؟ طبعاً الروايتان صدرتا في نفس السنة تقريباً. ويكأنه كان هناك شيطان وملاك ووحي وجنّي يطوفون على الأدباء في تلكم السنة ويغذونهم بنفس الفكرة! أو أن ما حدث في نهاية الثمانينات في عالمنا العربي ترك مبدعيه في نفس البقعة الفكرية. 




لا أقول أنني فهمتها تماماً، لكني فهمتها بما يخصني ويكفيني، وكما أشارت أحلام مستغانمي في هذه التحفة: "الفن هو كل ما يهزنا..... وليس بالضرورة كل ما نفهمه.." 

فوضى الحواس جاءت كجزء ثاني لذاكرة الجسد، وتتملكني رغبة عارمة لقرائتها، فلا بد لهذه القصيدة أن تستمر، لكني أشعر أني متعب مما قرأت في ذاكرة الجسد، ولست مستعداً لحمل ثقيل أخر. كانت مستغانمي على حق في قولها "نحن لا نبدأ من الصفر أبداً حين نسلك طريقاً جديداً. إننا نبدأ من أنفسنا فقط"، وجسدي هنا في لندن مستعد للقراءة والبداية، لكن نفسي الآن تسكن بيروت ودمشق وعمان واربد، المدن التي عشت فيها وعاشت فيّ، وتريد ان تبقى - ولو قليلاً - في صفرها، وسِفْرها. 

طبعاً الشكر للأستاذ أحمد هادي الشبول الذي نشر أكثر من مرة عن الإبداع الأدبي في هذه الرواية، فوجدت أنني ملزم بالقراءة.



أحمد بكر 

4 comments:

  1. إذا كانت الرواية أجمل من مدحك لها فقد استحقت القراءة

    ReplyDelete
    Replies
    1. لم أقرأ عمل أدبي بهذه الروعة من مدة طويلة، فعلاً إنها تحفة...

      Delete
  2. دعايه قويه للقراءه !!
    هل تنجح كلماتك في دفعي لفتح الكتاب و البدء في قراأته؟؟؟
    لا أدري فقد حاولت خلال الحجر الصحي الاجباري في قرأة ذكريات الشيخ علي الطنطاوي (رحمه الله ) و لم أكمل الجزء الاول (١من ٨ أجزاء) مع انها من الكتب التي تشد و تسحب القارئ الى نهاية الكتاب.. ...
    لا أدري أهي الحياه العصريه التي جعلتنا نبتعد عن الكتاب ؟؟
    أم السوشال ميديا التي حلت عنوةً مكان الكثير من وسائل العلم و المعرفه ؟؟ لا ادري !!

    ReplyDelete
    Replies
    1. كنت دائما ما أجد سبب يمنعني أقرأ، حتى قررت أن أبدا بالفراءة، فوجدت أنني لم أعد أستمتع بشيء كالكتب والقراءة

      Delete