Wednesday 24 July 2013

العلمانية والاسلام السياسي




قبل بضعة أسابيع أقرّ البرلمان الإيرلندي قانون يسمح بالاجهاض في حالات محددة. القانون جاء بعد ان غصّت الصحف الايرلندية بتغطية مستفيضة لوفاة طبيبة شابة من أصل هندي في احد المستشفيات بسبب تسمم الحمل, الجنين كان ميت ولكن المستشفى لم يقم بعملية لإجهاض المرأة. الجواب الذي أُعطي للمرأة حين طلبت الإجهاض هو: نحن دولة كاثوليكية, لا إجهاض هنا.

النقاش ليس حول مشروعية الإجهاض أو في ظرف يمكن السماح به, لكن في العديد من الدول المتقدمة والتي تنهج المنهج العلماني الديموقراطي منذ قرون نجد أن هناك تشدد ونفور تجاه بعض القوانين لانها تتعارض مع قيم المجتمع او مع معتقداته الدينية.

الدين, اي دين, بالمفهوم العام هو مجموعة معتقدات وطقوس, وهو أيضاً مجموعة من القيم والتقاليد. تتفاوت المجتمعات في تمسكها بهذه المعتقدات وتشددها في تطبيق الطقوس الخاصة بدينها ولذلك نجد ان مجتمعان يدينان بنفس الدين ولكنهم يختلفون بعاداتهم وتقاليدهم, وحتى قيمهم.

في أوروبا تطور مفهوم الدولة المدنية خلال عصور النهضة من الملكية وسيطرة الكنيسة إلى الديمقراطية والحكم من خلال المجالس النيابية. تدخل الكنيسة وسلطتها كان يتجاوز في كثير من الأحيان سلطة الملك نفسه, وتهجمها على المفكرين والعلماء والمجددين كان مخيفاً ومُحِدّاً للنشاط السياسي وحتى العلمي.

في بلادنا الإسلامية لم يكن هناك شكل أو هيئة مشابهة لسطوة الكنيسة ولكن استمدت الدولة العثمانية وما قبلها تشريعاتها ومرجعيتها من الدين, وكذلك فعلت الدولة السعودية والايرانية و يعتبرهما الكثيرون مثال حي على الدولة الدينية. وهذا المثال هو ما يحذو بالكثيرين إلى انتقاد هذه "الدولة"  والنظر بعين الفشل الى هذه التجارب. 
يجب التنبيه هنا ان كلتا الدولتان ترفضان مصطلح الدولة الدينية وذلك لارتباطه اصطلاحاً بالمفهوم الغربي للدولة الثيوقراطية. فالسعودية كما يقول محمد بن إبراهيم السعيدي رافضا مسمى الولة الدينية بل هي كلها مؤسسة: دينية في مرجعيتها مدنية في وظيفتها. 

رؤية السعودية، ايران، والدولة العثمانية كدول اسلامية دينية، ولكنها متأخرة حضارياً ومتخلفة في منظومة الدولة سواءا سياسيا ام اقتصاديا ام حقوقيا. هذا التخلف لهذه الدول كان دائماً سبباً في التهجم والاتهام لفشل فكرة الدولة الدينية في بلادنا الاسلامية. لكن الاسلاميون دائما يأتون بأمثلة تاريخية اخرى كانت الدولة/ الخلافة الاسلامية ناجحة متمدنة ومتقدمة على الكثير من مثيلاتها في حينه. 


مفهوم العلمانية كان وما زال متأثراً بمفهوم فصل الدين عن الدولة, الدولة الدينية الثيوقراطية, يقول بطرس البستاني : لا بد من وضع حاجز بين الرئاسة أي السلطة الروحية والسياسة اي السلطة المدنية..... المزج بين هاتين الممتازتين طبعاً والمتضادتين في متعلقاتهما وموضوعهما من شأنه أن يوقع خللاً بيّناً وضرارا واضحاً في الأحكام والأديان ولا نبالغ إذا قلنا إنه يستحيل معه وجود التمدن وحياته ونموه.

فصل الدين عن الدولة شرط رئيس للتمدن والحضارة كما يرى البستاني, وهو ليس وحيد في هذا التفكير بل ان غالب دعاة الليبرالية في بلادنا يعتقدون ويجزمون ان سبب تخلف مجتمعاتنا هو الخلط بين المدني والديني وسيطرة وسطوة الدين على المجتمع مع رفض التغيير والانفتاح والاهم, رفض العلمانية.

العلمانيون العرب من بداية عصر النهضة العربية ينظرون إلى الدولة الدينية متمثلة بالدولة العثمانية كسبب رئيس للتخلف العربي بينما كانت الأمم الجاورة لنا تتسابق حضارياً. وهناك الكثير من الحقيقة في هذا التصور باستثناء إطلاق تسمية دولة دينية على الدولة العثمانية.

انتهت الدولة الدينية المتمثلة بالخلافة العثمانية عام ١٩٢٣، تبعتها او واكبتها فترة من دول الاستعمار ثم جاءت دول الاستقلال. منذ عهد الإستقلال في أواسط الأربعينات من القرن الماضي نرى أن العرب كدول ازدادوا تراجعاً وتخلفاً مقارنة بدول أخرى خرجت من تحت سطوة الاستعمار في نفس الفترة.

ولا يمكن نكران أن غالب دولنا العربية والإسلامية اتبعت منهجنا علمانيا -متشدداً- في فصل الدين عن الدولة وحتى محاربة الدين والتدين بشتى أشكاله. ولعل الحالة التونسية هي أفضل مثال لدولة عربية ذات عقيدة علمانية( متطرفة) ولكن لم نرى تونس كدولة ناجحة بل دولة فاشلة سياسياً, قائمة على نظام الحزب الواحد, دولة أمنية بوليسية, وذات سياسات اقتصادية واجتماعية فاشلة. وهذا الاحتقان الشعبي تفجر مرة واحدة وكانت تونس هي مهد الربيع العربي.

والمثال نفسه ينطبق على مصر, سواء ايام حكم الملك فاروق, او عبد الناصر او السادات او مبارك, اربعة أنظمة للحكم, بعقائد مختلفة وتوجهات فكرية متباينة. الشيء الوحيد الذي يجمع بينها هو علمانية الدولة وتهميش وتضعيف وفي بعض الأحيان محاربة مؤسسات الدين الإسلامي. والنتيجة كانت في كل تجربة مزيد من الفشل السياسي و الاقتصادي.
 
لا يختلف اثنان( عقلاء ) على فشل التجارب العلمانية في دولنا, و للانصاف فان فشلها ليس سببه العلمانية المتشددة ومحاربة الدين, بل فشلها يعود لأسباب متعددة أخرى أهمها الاستبداد السياسي و التفرد بالسلطة. هذا الفشل لا ينحصر على الدول العربية الإسلامية التي اتخذت نهجنا علمانياً بل أيضاً الدول التي اتخذت نهجنا دينياً وأطلقت على نفسها مسمى الدولة الدينية هي أيضاً فاشلة, والفشل هنا أيضاً ليس الدين سببه ولكن اسباب متعددة والاستبداد والتفرد بالسلطة أهمها.

ولكن لا يمكن اغفال هذا الفشل حين النظر إلى الخطاب العربي السياسي المعاصر.

فالعلماني المعاصر يريد أن يقيم دولة علمانية يدعي انها مدنية تقبل بالتعدد ولكنه يرفض اهم اركان واوسع شرائح المجتمع: الإسلام السياسي  والخطاب الديني. وعلى النقيض, فهو يعتبر أن هذا الإرث من قرون من الفشل سببه خلط الدين بالدولة. ولكنه في نفس الوقت لا يعترف ان آخر عشرة عقود من تاريخ دولنا كان علمانيا ولم يتحقق التقدم والنجاح المزعوم, بل ازددنا فرقة وعصبية وتخلف. ورغم انه يُقرّ- على مضض- ان الاسلام دين المجتمع وجزء من هويته الحضارية ، لكنه يرفض ان يكون لهذا الجزء وجود في الحياة السياسية للمجتمع، مُصِراً على فصل الدين عن السياسية، ولا يتفهم ان السياسة تتأثر بقيم المجتمع، تحتكم لمبادئه، ولا يمكن فصلها عمّا يشكل هذه القيم والمبادئ.

والإسلامي المعاصر يريد دولة إسلامية يدعي انها مدنية تقبل بالتعدد ولكنه يرفض هذا التعدد ان لم يضمن له ما يريد. وهو يعيد مررا وتكررا فشل التجارب العلمانية في الحكم في دولنا ولكنه لا يملك رؤية حقيقية لشكل الدولة المدنية وكيف تتشكل علاقة الدين مع الدولة وكيفية تداول الحكم.

 
مما لا شك فيه ان الخطاب السياسي المستخدم من الطرفين خطاب مليء بالغموض والاتهام والمرجعية لاحداث مبهمة يسهل تفسيرها بطرق متعددة. هذا الخطاب يحمل الكراهية للآخر وتسفيه لمعتقده وتحقير لشخصه. وهو خطاب إقصائي وهدّام لا تبنى الامم من خلاله وانما يُجذّر الانقسام والاستقطاب، و بإختصار خطاب عقيم.

في كل مرة حاولت شعوبنا الخيار الديموقراطي في الحكم, لم تتعدى التجربة مراحلها الأولى وهي الاختيار من خلال الانتخابات. فتأتي النتيجة طبيعية ومتوقعة لمن له أبسط صلة بالواقع وحياة الناس: فوز الاسلاميين. ونجد رد الفعل على ذلك يتفاوت من اتهام الشعب بالغباء إلى اتهام الاسلاميين باستغلال الدين للأهداف السياسية. اما الأولى فلا رد عليها سوى ان من يتهم الشعب بالغباء اما انه لا يعرف الشعب او ان الشعب لا يعرفه. واما استغلال الدين, فالجواب بسيط؛ أليس هذا الدين عقيدة وقيم هؤلاء الناس, كما ان من يترشح للإنتخابات ويرفع شعارات شيوعية يطمح أن يحقق هذه الشعارات وما ينطوي عليها من قيم ومعتقدات, اليس هذا استغلال لعقائد الناس وما يؤمنون به؟ ربما هو استغلال ان لم يُطبق او يسعى لتطبيق هذه الشعارات، لكن محاسبته على رفع الشعارات دون النظر الى برنامجه الذي من خلاله سيتم تطبيق هذه الشعارات هو جهل سياسي. 

والحق يقال ان تجاربنا الديموقراطية بائت بالفشل، فالعلمانيون رفضوا انتصار الاسلاميين وكادوا وتأمروا لاسقاطهم من خلال العسكر او الاجانب( فلسطين، الجزائر، مصر) ، والاسلاميون لم يتعاملوا مع فوزهم بذكاء، بل حقيقة تعاملوا بغباء سياسي ادى الى المساعدة في فشلهم واسقاط نجاحهم.

 

ان التجربة المصرية اثبتت بجدارة إنعدام الرغبة الحقيقية لطرفي المعادلة السياسية في انجاح تجربة الدولة المدنية الحديثة. وكان من عجائب القدر ان العلمانيون انتفضوا ضد نتائج الديموقراطية ورفضوها, واستعانوا بركيزة الإستبداد الأولى في بلادنا: العسكر, على قلب نظام الحكم. وفي المقابل وبنفس الدرجة من العُجب خرج الاسلاميون ليطالبوا باحترام الديموقراطية والدستور المدني للدولة , وتحالفوا مع العدو الاكبر لبلادنا: أمريكا, لتضمن نجاح تجربتهم الديموقراطية.


هل ما نريده هو دولة علمانية تُجرّدنا من ديننا الذي هو ليس فقط علاقة روحانية مع الخالق لكنه منظومة متكاملة من القيم والمبادئ. هل الدولة المدنية الموعودة ستكون استنساخ عن تجاربنا السابقة من الأنظمة القمعية المعادية للدين, هل حقاً هذه هي العلمانية؟ ديموقراطية في حالة ضمان النتيجة - 99.99%- وعدا ذلك إقصاء وقمع والعودة إلى حضن الدولة البوليسية.
دائما يردد البعض ان النظام الديموقراطي العلماني يعني ان الشعب مصدر السلطات واساس التشريع، لا الدين ولا 
الشرائع السماوية. 

السؤال الذي يطرح نفسه الزاما: اذا كان الشعب بأغلبيته يدين بالاسلام ويحتكم لشرائعه، ألا يعني هذا علاقة تعدي ضمنية مفادها ان السلطة في النهاية ستكون لما يدين به الشعب، فلماذا نجد الكثير من العلمانيين العرب يهاجمون الدين والتدين واشكاله ويعتبرونها سببا في التخلف والرجعية والاستبداد؟ ام اننا حين نتحدث عن "الشعب" فاننا نقصد " الشعب" الذي يوافقنا على ما نريد وما عداه فهم ليسوا من "الشعب"؟


طبعاً انا لست حياديا ولا ادعي ذلك, ولست اكاديميا ولا ملماً بكل جوانب الموضوع، لكن وبصراحة مطلقة لا استطيع ان اقول اني في خِضّم هذه الفوضى اعرف ما اريد ومع من أقف. لكنني أستطيع أن أجزم أن كِلا الطرفين لا يعرف ماذا يريد, وكلاهما على خطأ.



1 comment:

  1. اخبرتني زميلة في العمل ان المانيا تقتطع من الراتب مبلغ هو ضريبة الكنيسة، اخوها تخلى عن الكاثولكية رسميا وحينذاك توقف الاقتطاع من راتبه؟!؟ وفي بلادنا اي ذكر للدين نجد العلمانيين يتهموننا بالتخلف!

    ReplyDelete