Sunday 21 March 2021

طول ‏عمري ‏مشكلجي ‏الحلقة ‏الثالثة

الحلقة الثالثة - الزيارة الثانية للمخابرات

في اليوم التالي استيقظت مبكراً وغادرت البيت قبل الثامنة، كان لدي دوام في عمان الجراحي يومها يبدأ الساعة الثالثة عصراً.
وصلت مبنى المخابرات في البيادر قبل التاسعة، أصبحت أكثر خبرة في الطريق.
عند وصولي للمدخل الرئيس صعدت بنفس الباص، وبعد أن تحرك الباص للحظات توقف وأشار السائق لي بالنزول مع بضعة أشخاص، اتجهنا أنا وهم إلى ممر طويل وإقتادني أحد الموظفين، وحينها لاحظت أن من رأيتهم بالأمس واليوم داخل المبنى جميعهم يرتدون اللباس المدني، على عكس سائق الباص وموظفي المدخل! أشار إليّ بالجلوس على منضدة جلد واسعة ولكنها مهترئة، شعرت بالأسى وأنا أبادله الإبتسامة وتساءلت: كلانا يحب الأردن ولا شك أن كلانا مستعد للتضحية بروحه دون تردد من أجل هذا الوطن، لكن ما الذي جعلنا على نقيضين؟ أقسمت في نفسي أن لا أكرههم.

بعد عشر دقائق جاء المحقق نفسه ونادى علي؛ كان بشوشاً جداً وصافحني وأشار إلى أن أتبعه، ففعلت.
دخلنا مكتب واسع، كراسي مريحة وطاولة من الخشب المهاونجي/البني الغامق. قال وهو يشير إلى الكرسي: ارتاح. قلت شاكراً : قبل أن نبدأ، كاسة ماء، اذا سمحت (كنت مفطر فول).
قال ضاحكاً: لو أن كل مراجع جاءنا سقيناه ماء لنفذ الماء من البلد! ضحكت ببرود، إتجه إلى باب المكتب ونادى المراسل، قال له كاسة ماء، فتدخلت مسرعاً: وقهوة، وسط! نظر إليّ مستغرباً، كان المراسل الشاب لا يزال يقف عند الباب محتاراً ممن يأخذ الأوامر، فنظر إليه وقال: اثنين قهوة.
جلس إلى مكتبه وقال لي: أنا اليوم صحيت مريض، لكني جئت عشانك! 
شعرت بالإطراء، وزاد ذلك شعوري بالأهمية وأنا أجلس في مكتبه وليس غرفة تحقيق، قلت مجاملاً: سلامتك.
جاءت القهوة، عرضت عليه سيجارة (كنت أدخن وينستون حينها) فرفض شاكراً وهو يخرج علبة المالبورو، قلت مبتسما: نيالهم اللي يشتروا الدخان دون جمارك.. ضحك وعدّل جلسته ثم بدأت الأسئلة.
كانت الجلسة ودودة ولطيفة، لم يكن حاداً كما كان بالأمس، وأنا لم إكن متوتراً كما الأمس. أذكر كل أسئلته، وكانت كلها حول نشاطي الطلابي في الجامعة، والحقيقة أنهم لم يكن لديهم أية مادة دسمة عنّي سوى كلامي عن الملك. وأعتقد أنهم كانوا في حيرة أمري، وهذا بسبب وجودي مع قيادات الإخوان وإتحاد الطلبة ولكن عدم وجودي تنظيمياً في الإخوان المسلمين، بل حتى "قلة ديني" وقتها وميولي اليسارية". والسبب بسيط، بالنسبة لي أنا أُحبّ هذا البلد، ومستعد للعمل مع أياً كان لما فيه مصلحته وزهاره، سواء توافقت معهم عقائدياً او فكرياً أم لم أتفق.


كان كثيراً ما يسرد أسماء طلاب من كليات مختلفة، كنت أعرفهم، ليسألني عن نشاطي معهم، خصوصاً النشاطات الطلابية. وكنت أرد بسرد أسماء كل من أعرفهم من نشطاء المخابرات في الجامعة الذين كانوا حريصين على حضور أنشطتنا مع إتحاد الطلبة ليعرفوا ما يدور.

صراحةً، لم يكن لدي شيء كثير ذو فائدة لهم، فأنا تخرجت من الجامعة، وحتى حين كنت في الجامعة ورغم نشاطي لكني لم أكن في أي تنظيم، وكانت علاقتي قوية بالإخوان، وكذلك بحزب العهد (أسسه الروابدة) وكتلة وطن. ومواقفي في السرّ والعلن واحدة، وما قلته لمحمد السرحان لم يكن سراً، ولم تكن المرة الوحيدة، لكنها كانت المرة الوحيدة التي جمعت الخيانة مع الماسونية (وجهة نظري الآن مختلفة جداً عن الموضوع) مع المصافحة مع رابين.
خلال النقاش/ التحقيق ، ولكي يُظهر أهمية وبراعة المخابرات قال لي: عندما يرزق أحدهم بمولود، ماذا يفعل؟
 قلت: إيش عرفني، أنا عزابي!
قال بنفاذ صبر: أين يسجله؟
قلت: في الأحوال المدنية. وتذكرت بامتعاض سبب وجودي هنا!
قال بفخر وهو يرجع إلى الوراء ليغرق في الكرسي الوثير: قبل أن يفعل، نكون قد فتحنا ملف له هنا!
قلت بغضب مصطنع: أنا لي حق عرب عندكم إذا!
قال: ليش ان شاء الله؟
قلت: انا مواليد سوريا، ولم أُسجل في الأحوال المدنية هنا إلا بعد سنوات طويلة!
قال متلعثماً: ان شاء الله مواليد الهند، بنفتح ملف مباشرة.
قلت وأنا اتنفس عميقا وبطريقة مسرحية: طمئنتني....
أردت أن أقتبس من مسرحية كاسك يا وطن وأقول له: "عندكم كل هالمعلومات عني وما بتعرفوا أن أولادي عيدوا حفايا".

في أثناء الحديث / التحقيق دخل شخص يبدو عليه أنه أعلى رتبة، فتح الباب دون أن يدق، وسأله رمزا عن شيء لم أفهمه، وبعد أن أجابه باقتضاب قال وهو ينظر إلي: إيش هذا؟ شعرت بالإهانة، ف "ما" و "إيش" تستخدم للشيء، وليس للعاقل، وهكذا يروننا، أشياء! فقال المحقق: تكنو (يقصد جامعة التكنولوجيا)، 
فابتسم الرجل الواقف عند الباب وقال: ممتاز، جيبوه! 
فرد عليه: خريج!
فقال وهو يغادر: لا ما بينفع.

استمر حديثنا، والذي بدا لي أنه بلا قيمة لي أو له، فهو لا يكتب ملاحظات، ولا يوجد أحد لتدوين التحقيق، وغالب ما يسأل عنه هو معلومات عامة معروفة للجميع.
انتهى اللقاء، وقال لي :
تمام، بعد اسبوع تروح الأحوال تلاقي الجواز جاهز. شكرته، وقلت له:
اذا إحتجت أي مساعدة طبية في الجراحي أو الجامعة ، فأنا مستعد، وفرصة سعيدة.
ابتسم ومد يده للمصافحة؛ فصافحته وقلت له: أنا لا أعرف إسمك؟ قال: مش مهم.
قلت ضاحكا: لا تخاف...
لم يجد ذلك مضحكا.. 

نادى على المراسل، وأمره أن يصطحبني للبوابة. رافقني الشاب بخطوات سريعة في الممرات، ودار بيننا حديث قصير جداً حول دفء الجو رغم أننا في شباط. اكتشفت قِصر المسافة بين البوابة ومكاتب التحقيق، والتي من الواضح أنها لا تحتاج باص..
بعد اسبوع ذهبت إلى الأحوال المدنية، فوجدت جواز السفر جاهز.
أحمد بكر 

No comments:

Post a Comment