Sunday, 21 March 2021

طول عمري مشكلجي الحلقة الأولى- جواز السفر ...

طول عمري مشكلجي 
الحلقة الأولى- جواز السفر ...
في نهاية عام ١٩٩٥ قررت اعمل جواز سفر. ذهبت إلى دائرة الأحوال المدنية وقدمت طلب، وبعد سؤال واستفسار، قيل لي: أنت مواليد سوريا، كيف دخلت الأردن؟ قلت: وثيقة سفر من السفارة الأردنية في دمشق، صالحة للسفر لمرة واحدة وإتجاه واحد، وأخذوها على الحدود!
قال لي الموظف: لازم تجيبها، بدونها ما في جواز سفر. إتجهت إلى دائرة الحدود والأجانب - حسب ما ارشدني موظف الأحوال، وكانت في العبدلي، بجانب العمارة الزرقا. أخذت تاكسي لأوفر وقت (نص ليرة، من الدوار الثاني للعبدلي) وصلت هناك وقفزت من السيارة إلى الحارس عند الباب الذي بادرني: خير؟ قلت له أحتاج إلى نسخة من وثيقة سفر صُودرت على الحدود! قال متى؟ قلت: ١٩٨٥، ابتسم وقال وكأنه يُسّمع درس حفظه من سنوات: الوثائق المحفوظة هنا تتلف كل خمس سنوات! يعني؟ تسألت، لم يرد. وقفت على الشارع مكتئباً، أطلت النظر بالعمارة الزرقا بجانبي، لعنت حظي وعدت للبيت.


في بداية عام ١٩٩٨، أخبرتني أمي أنها محتفظة بصورة عن الوثيقة، إتجهت إلى الأحوال المدنية في اليوم التالي، قدمت الطلب وأرفقت الصورة، رفضها الموظف لأنها صورة غير مصدقة! أخذت الطلب واتجهت إلى مدير الأحوال المدنية وشرحت له الوضع فدمغ الطلب بتوقيعه، وخرجت وأنا أسعد الناس. قدمت الطلب وقيل لي "ارجع الساعة ثنتين".
عدت بعد بضعة ساعات، فقيل لي:
تحتاج موافقة مخابرات! إرجع بعد اسبوع.
رجعت بعد عشر أيام، قيل لي: راجع المخابرات.



راجع المخابرات، كلمتين ارسلتا قشعريرة في بدني وتملكني خوف شديد. سألت: كيف؟ متى؟ أين؟ قيل: فقط إذهب إلى دائرة المخابرات العامة في البيادر!
بعد يومين، استجمعت كل ما عندي من شجاعة وإتجهت إلى المخابرات. بعد عدة باصات وصلت إلى مبنى المخابرات والذي هو أشبه بحصن منيع. عند البوابة أعطيت الموظف إسمي وحاولت أن أشرح لماذا انا هنا، لكنه قاطعني قائلاً : اركب الباص! دخلت الباص، كوستر ٢٢ راكب، أبيض من الخارج بدون تفاصيل، ونظيف من الداخل. الشبابيك مغلقة، وكذلك الستائر. جَوْ، المقصود منه أن يُشعرك بالخوف، ضحكت في داخلي وأنا أجلس في المقعد خلف السائق مستمتعا بالشباك الذي لم يستطيعوا أن يغطوه بالستائر!
تحرك الباص بسرعة، وقطعنا فيه من الوقت ما يكفي لأن يصل صويلح (مبالغة شوي) والواضح أن كل شيء مُعدّ لتشعر بالخوف والقلق. نزلنا من الباص ودخلنا قاعة انتظار، المكان واسع جداً لكن الكراسي في منطقة ضيقة، فنحن محشورين مع بعض على هذه الكراسي في هذا المكان الواسع. لا أعرف أحد من المنتظرين، أغلبهم شباب وكثير منهم تبدو عليهم علامات الخوف. تلك اللعبة التي يلعبونها: باص مغلق، لفلفة طويلة، قاعة انتظار غير مريحة، رغم وضوحها إلا أنها تبدو فعالة مع البعض. أجزم ان هؤلاء البعض الذين انطلت عليهم هذه الحيل هم جاهزين فقط عند كلمة مخابرات، وكل ما تلا ذلك هو تضييع لوقتنا ووقتهم.
بعد نصف ساعة انتظار نودي على البعض منا وتم اقتيادنا إلى قاعة أخرى، ومزيد من الانتظار.
طبعا انا كنت متوقع كل ذلك، لذلك أفطرت في الصباح فطورا جيدا، لم أغادر الببت إلا بعد العاشرة، وصلت المخابرات بعد منتصف-اليوم لأني أعلم أنهم سوف يجعلونني أنتظر، وكنت أعلم أن نهاية الدوام عندهم حوااي ال٣ عصراً، فأقصى وقت سأنتظره هو ساعتين. وأيضاً حملت معي باكيت دخان جديد، احتياطا.

كنت أعرف ما هي الأسئلة التي سيسألونها، فأسئلتهم مكررة. كنا عادةً ما نجلس ونتسامر بقصص التحقيق في المخابرات، طريقة التعامل، الاسئلة واسلوبها. كان من قد طُلِبَ للمخابرات يزهو فخاراً وكأنه قد نال وسام الوطنية، وفعلاً، من يشهد لك على وطنيتك وجديتك بالعمل أكثر من المخابرات.

جلست في القاعة الثانية ، وهي أصغر كثيراً من الأولى، والهدف ان لا تكون مرتاحا، وفعلاً لم أكن مرتاحا.
بدأت أخمن لماذا هؤلاء الناس هنا؟ هذا أبوه كان في المنظمة (منظمة التحرير الفلسطينية) وهذا يحتاج موافقة أمنية لكشك، وهذا ربما كان يتحدث مع بعض أصدقائه في السياسية فقال أكثر مما يلزم. 
بعد قرابة النصف الساعة جاء شاب متوسط القامة، نحيف، أقرب إلى السمرة ونادى إسمي، تقدمت بإتجاهه فمشى مسرعاً ولسان حاله يقول: إلحقني!
دخل إلى غرفة صغيرة، فيها مكتب حديدي قديم وكرسي بلاستيكي غير مريح، كان قد سبقني فلم أتبين كرسيه الذي جلس عليه. شعرت بالإهانة، فهذا مكتب تحقيق، وليس مكتب المحقق، وهذه إشارة إلى تدني القيمة، قيمة المحقق، وقيمة المُحَقَقَ معه (أنا).
كنت أعرف تقريباً كل شيء عن أسلوبهم، لكن شيئاً واحداً كنت أجهله وهو ماذا لديهم ضدي؟
بمجرد أن جلست قال لي:
إنت في قعدة مع محمود وبهاء وصقر وقلت في تلك الجلسة ان الملك خائن وماسوني، وقلت أن الملك لما صافح رابين (١٩٩٣) قال إنه بيعرف رابين من عشرين سنة!

 أحمد بكر 

Sunday, 14 March 2021

التعميم، الجهل، والشك

(العنوان الحقيقي هو كيف تعرف التيس) 

ايش الفرق بين ان تعلم وان لا تعلم؟ بين الجهل والعلم؟ 
 الفرق هو بالشك، كلما كنت متأكد من الشيء وواثق من نفسك ويقينك لا يُزعزع، معناه إنك جاهل. في سورة الحجر يقول رب العزة: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين. واليقين هنا بإجماع أهل التفسير هو الموت، فالحياة كلها شك حتى تنتهي بالحقيقة واليقين. 

بصراحة، الجاهل يتحدث بثقة عمياء ويقين مطلق - وكأنه ألمَّ بكل تفاصيل ودقائق الموضوع الذي يتحدث فيه،فالعالم، في الفقه او العلوم، لا يُعمم، ولا يجزم، ويشترط عندما يتحدث، والجاهل يتحدث بالمطلق والعموم، في كل شيء وهذا دليل على التياسة. . 

الشافعي كان يقول شطر (نصف) العلم لا أدري. واليوم يأتيك من لا يعلم ويتحدث وكأن الشافعي كان من تلاميذه. والطامة الكبرى ليس فقط حصر العلم بذاته، بل نفيه عن غيره، فيقول ناسا كذابين، وأكسفورد لا يعرفون، وإلى ما لا حصر له من أمثلة. 




ما دفعني للكتابة عن هذا الموضوع شيئان، إنتشار نظريات المؤامرة ، والطريقة التي يرد البعض بها على بعض المنشور على وسائط التواصل الاجتماعي. 

هذه الأيام تجد من لا يعرف إيش هو الحمض النووي الريبوزي والفرق بينه وبين الحمض النووي الريبوزي منقوص الأوكسجين (تعمدت ذكر التسمية العربية) يفتيك في لقاح فايزر ومادرنا. وأنا، وكثيرون مثلي، رغم دراستي الميكروبيولوجي في الجامعة وقرأتي للعديد من الأبحاث المنشورة عن الموضوع، أتجنب الخوض فيه خوفاً من الخطأ او الحديث عن ما لا أفقهه. 

قبل أيام نشر الصديق عدنان الشبول فيديو عن نبات الحندقوق، وهو يدخل في صناعة السمن البلدي، وعدنان بحث واستفسر وتعلّم عن الموضوع قبل ان ينشر الفيديو، الغريب أن البعض خاطبه نافياً ان يكون ما صوّره هو الحندقوق، والبعض اتهمه بالجهل، واحداهن حذرته من الكلام عن الأعشاب. أنا ممكن أختلف مع شخص في طريقة إعداد السمن البلدي، لكن لا أقول أنه جاهل لأنه يختلف معي، وقد أكون أنا الجاهل بشيء هو يعلمه، فلماذا أنفي العلم عن غيري والحقيقة أنني أنا الجاهل؟

هذا مثال من أمثلة، وأجد أن هذه الآفة، هذه المصيبة، منتشرة جداً الآن، والغريب ان البحث والوصول إلى الحقيقة الان سهل جداً، لكن تجد غالب الناس يفضلون الكذب وينشرونه، قصدا او جهلا، ولا أدري أيهما اسوأ!

دائماً ما أنصح أبنائي (صرت ختيار) وأقول مكرراً:
إياك أن تختار أن تكون غبياً! فالجهل خيار، والغباء الناتج عن الجهل خيار، فحذار أن تختار الغباء ودعة الجهل على تعب المعرفة...

خلاصة القول:
من يتحدث بثقة زائدة، وجب عليك الشك في كلامه. وتصديقك للكذب هو اختيارك أنت، وانت المسؤول عن خياراتك.

أحمد بكر


حاشية
قديماً كنت من محبي الإستماع للشيخ كشك، وهو رحمه الله متحدث بارع، لكني اكتشفت ان غالب القصص والأحاديث التي يستخدمها في خطبه مكذوبة وموضوعة، واكتشفت أيضاً ان بعض طلاب العلم قد نبهوه إلى ذلك، لكنه تجاهلهم واستمر على نفس النهج! وهذا مثال واحد، ومثله كثر، في الدين وغيره. 
منذ زمن، صرت اذا وصلني حديث، بحثت عن تخريجه (تستغرق ثواني) وغالب ما يصل قصص موضوعة ومكذوبة، ما أستغربه،اذا ذكرت للبعض ان ما نشره كذب، تجده احتد وغضب، وكأنك أخطأت لأنك قلت ان ما نشره كذب، وهو لم يخطأ عندما نشر الكذب، فأستيقن أن الغباء والجهل خيار، والبعض يفضل أن يكون جاهل وغبي، على أن يعرف انه قد كان مرة جاهل (وكلنا كان كذلك) وتعلم. 

Tuesday, 9 March 2021

سداسية ‏الأيام ‏الستة


كتابة خارج النص

لا أريد أن أتحدث كثيراً عن المجموعة القصصية، فقط فقرة واحدة أريد أن أتوقف عندها، وهي من رسائل فيروز إلى أهلها من سجن الرملة. في السجن، اجتمعت المناضلات من شتى بقاع فلسطين، لكن فتاة واحدة من حيفا تتصدر المشهد، فهي من أبناء الداخل، الذين نسيناهم وظننا أنهم نسوا الوطن وهويتهم الفلسطينية.
إلى ماذا تطمح، ماذا تريد، وما المستقبل الذي نريده جميعاً؟
الماضي..

نعم، نَحْنُ نَحِنّ إلى الذكرى، وكل ما نأمله في مستقبلنا، الوطني، العائلي، والفردي أن نجد الماضي أمامنا لنحياه مرة أخرى.

نريد لأوطاننا أن ترجع كما كانت، نتخيلها كما الذكريات، كالطفولة، المجد الذي نتمناه هو ما درسناه في كتب التاريخ.

حين زرت سوريا قاومت رغبة شديدة لزيارة التل وعين منين، لأن الشبق الذي كان يعتريني لم يكن لتضاريس المكان، بل لذلك الطفل في ذلك الزمان، لم يبقَ في الأمل هامش لما نشتاق، فكل ما نريد أن يكون، كان. والآن، ماذا تريد، ماذا نريد، الماضي بصورته الجميلة، لا الحقيقية. 

أحمد بكر 



Sunday, 7 March 2021

زهايمر

زهايمر
الأسبوع الماضي وأنا في الدوام رأيت رجل في بداية الثمانينات، أحضره الإسعاف إلى الطوارئ بعد أن وجدوه في منتصف الليل يبحث عن الباص!
في الطوارئ لم يجلس على كرسي للحظة واحدة، يلف دون توقف يحاول المغادرة؛ لأنه يريد الذهاب إلى الطوارئ!
كنت أتابعه بنظري وهو يجر قدميه ببطء، يتوقف كل بضعة أمتار ليرفع بنطاله الذي كان يكشف عن الحفاظة التي كان يلبسها! أمسكت يد ذلك الرجل ومشيت معه، تحدثت إليه ولكن دون جدوى، نظرت في عينيه فلم أرَ سوى الخوف والفراغ. 

سألت نفسي هل هو إنسان؟ لم أعرف الجواب، 
لأنني في حينها لم أدرِ ما هو الإنسان.. 
سألت نفسي ما هو الإنسان؟ جسم عضوي يحمل نفس الأعضاء التي أحمل، لكنه- أي المريض أمامي- يحمل كل تلك الأعضاء فقط يخلو من الوعي، الإدراك، فهل فقد إنسانيته؟

سألت نفسي إيش يعني انا؟ من أنا؟ تذكرت مقولة ديكارت الشهيرة: أنا أفكر إذا أنا موجود. نعم، أنا فكرة حيّة قادرة على التعايش مع ما حولها من خلال الإدراك، إن فقدت هذه القدرة فأنا لست نفسي، لست إنسان، مجرد جهاز عضوي لا قيمة له.

شعرت بخوف شديد وحزن عميق، فأنا لا أريد في يوم من الأيام أن ألبس حفاظة، لا أريد أن تكون نظراتي فارغة من الحياة، ولا أريد أن أنسى من أنا. أريد ذاكرتي كاملة، محتفظة بكل تلك التفاصيل، من لون الفراولة التي كنت أقتطفها وأنا جالس في الكرسي الخلفي للجيب العسكري عندما كان عمري لم يصل الخامسة، إلى هذه اللحظة، كل تلك التفاصيل هي أنا، هي إنسانيتي، هي أحمد.


أحمد بكر 

Sunday, 28 February 2021

الأدب الفلسطيني- ‏إميل ‏حبيبي ‏كمثال

الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الإحتلال
(هذا عنوان لكتاب في النقد لغسان كنفاني) 


نحن العرب مبدعون في الأدب، وفي إختراع أنواع /أقسامٍ جديدة منه؛ فهناك أدب المهجر الذي كان جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي أشهر أعلامه، وأدب السجون الذي تُعتبر روايات شرق المتوسط (عبد الرحمن منيف) والقوقعة (مصطفى خليفة) كأبرز الأمثلة عليه. وهناك أيضاً أدب الإحتلال، واللفظ لا شك فيه إشكال فالادب لا يتناسب مع الإحتلال وهما ضدان- طباق، لكن ما ينتج ويُنتج تحت الإحتلال له لون خاص. وهذا الفرع ليس حكراً على العرب، فكثيرون عاشوا تحت الإحتلال وأنتجوا في الأدب، لكن الحالة الفلسطينية خاصة، من وجهة نظري، للأسباب التالية :
أولاً تجدد الهوية الوطنية تحت الإحتلال، ثانياً تنوع طُرق الإحتلال، ثالثاً إندماج المقاومة مع السجون مع التهجير واللجوء في الهوية الأدبية. 

بدأ احتلال فلسطين قبل أن يجد الفلسطينيون هويتهم الفلسطينية. فالإنتداب البريطاني عند بدايته كان الفلسطينيون جزء من سوريا الكبرى، وجزء من القومية العربية. تجدد هذا الإحتلال ليبدأ الإحتلال الإسرائيلي، فوجد الفلسطينيون أنفسهم على هويات مختلفة: فلسطينيين تحت الإحتلال، فلسطينيين أردنيين، فلسطيني اللجوء، فلسطينيين في الخليج، وفلسطيني قطاع غزة. وهذه الهويات المتفرعة عن الهوية الأم غير متجانسة، نعم يجمعها تاريخ مشترك وهدف مشترك ونضال مشترك، لكن كل هوية تطورت بذاتها وبصلاتها بالمجتمع والظروف المحيطة. 

لماذا كل هذا؟ 
بصراحة كل مأردت الكتابة عنه هو مشاعري تجاه كتابات إميل حبيبي، وأكثر ما أثارني في كتاباته تلك الخصوصية الواضحة في القصة/ السرد لأهل "ال٤٨"، وهم الفلسطينييون الذين عاشوا تحت الإحتلال الإسرائيلي وأصبحوا جزء من دولة إسرائيل. 
 إميل حبيبي وإيليا سليمان وسميح القاسم وأحمد الطيبي ورائد صلاح كلهم أعلام وقامات فلسطينية من أهل "ال٤٨" وهو اللفظ الذي نستخدمه نحن الفلسطينيون للتمييز بين أهل الداخل وباقي فئات الشتات. لكن رغم معرفتي لهؤلاء، لم أدرك ذلك الإختلاف في الناتج الأدبي إلا بعد قرأتي لإميل حبيبي، وسأسرد هنا مثالين من مجموعته القصصية سداسية الأيام الستة:
في إحدى القصص يتحدث عن جبينة (شخصية من الموروث الشعبي الفلسطيني، قصتها موجوده على المدونة) ويستخدمها كإستعارة عن معاناة الفلسطينيين الذين استطاعوا أن يصلوا إلى أهلهم أو قراهم فقط بعد نجاح إسرائيل بإحتلال كامل فلسطين. والمثال الآخر هو حديث الصبية في الحارات عن حتمية إنسحاب إسرائيل من أراضي ال٦٧، هذا اليقين لديهم لم يكن موجود في أي مكان في العالم العربي حينها، على العكس كان الشعور بالخيبة والانكسار هو المسيطر. 

الرواية - والأدب عموماً - هي في العادة مرآة للواقع، ليس بالضرورة أن تتحدث بالتفصيل عن يوميات الناس، لكنها تمس ما يهمهم وتحكي عن مشاعرنا ونحن نتعاطى مع العالم حولنا. وإميل حبيبي قد فتح لي نافذة عن حياة أهلنا الفلسطينيين تحت الإحتلال لم أرها من قبل. 

إحمد بكر (الهمزة تحت الألف بالنطق الفلاحي) 

Sunday, 21 February 2021

إخطية ‏- ‏إميل ‏حبيبي



هذه أول رواية أقرأها لإميل حبيبي، فلسطيني من حيفا، عاش شبابه تحت الانتداب البريطاني، وفي ١٩٤٨ أصبح رغماً عنه صحفي إسرائيلي. 
الرواية كُتبت في عام ١٩٨٥، إميل كان وقتها ٦٤سنة، وفي حينها وفي ثقافتنا "كان ختيار".
الكتاب يقع في ١٦٣ صفحة، بما فيهم المقدمة والصفحات البيضاء، يعني ممكن تقرأه في جلسة واحدة. 

إيش إخْطَيِّة؟ 

هي لفظة فلسطينية، أقرب معنى لها هو "حرام" التي تقال شفقة وليس تحريماً. لماذا إختار إميل حبيبي هذا الإسم كعنوان؟ لا أعرف، ولم أحاول سبر هذا السر. لكن لو كان لي خيار التسمية لهذه الرواية ربما سَميّتُها:
 الشقاء والبقاء، أو قصة تعاسة الحياة تحت الاحتلال، أو ربما هلوسات رجل عجوز، أو إخطيّة... 

"لو لم يكن الجبل كسيحاً لكرهناه، لو لم يكن البحر كسيحاً لأغرقناه. ولا تتألق إخطية إلا بمن يحبونها." وللحديث عن من أحب إخطية لا بد من الحديث عن الجبل، جبل الكرمل، والبحر، بحرك يافا، وعن أهل فلسطين، بمعاناتهم وإنقساماتهم، ولا بد من الحديث عن العابرون في المكان، الذين جاؤوا بعد العرب. لكن إميل حبيبي بدون مبرارات يتحدث أيضاً عن المسعودي ومروج الذهب ويتحدث عن الأندلسي والعقد الفريد، ويتحدث عن أشياء من الواضح أن لا علاقة لها بالقصة، وهنا السؤال المهم؟ عن إيش القصة؟ 

"فأحطنا الذاكرة بأكياس ملأناها بالنسيان استحكمنا وراءها نصدّ غارات اليأس حتى لم يبقى في الذاكرة سوى هذا السياج."

القصة عن الذاكرة، ذاكرة المكان. والمكان هنا هو شارع عباس في حيفا، لكنه أي شارع تختلط فيه الحداثة مع الغربة، الانضباط والروتين مع الفوضى، البساطة والبراءة مع التغريب والتغيير. أي شارع نجد فيه طيف من الماضي يمر من أمامنا فتتوقف الساعات لحظة أبدية، نضيع فيها في ذكرياتنا. 

حاولت أن أختصر في الكتابة عن هذه الرواية، ولو فسحت المجال لنفسي ربما كتبت عنها ما يوازي عدد صفحاتها. ليس لروعتها - هي لا شك جيدة- بل لأنها تفتح الأبواب وتتركهم مُشرّعة، أبواب عن الكتابة، عن اللغة، عن الوحدة، عن التاريخ، عن الحب، عن المعاناة، وعن أشياء كثيرة. 

لكن إرتأيت أن تكون هذه مراجعة سريعة، سرقتها من الوقت لأننا نحب أختلاس النظر والسرقة:
"لم يطب لنا تعاطي الحب إلا كما طاب لنا اللوز والبرتقال، الحلال علينا في كرمنا ودكاكيننا، سرقة"
ولأننا مشغولين، إخطية... 


أحمد بكر

Saturday, 13 February 2021

the Scream ‎الصرخة



لوحة الصرخة معروفة ومشهورة، الشخص في اللوحة هو
 الرسام - إدوارد مانش- والشخصية ليست هي التي تصرخ، بل تخترقها صرخات المعذبين. 
من فترة قريبة سمعت أغنية الشارة لمسلسل أبناء القهر - لم أحضره- وشعرت مباشرة بإرتباط الأغنية باللوحة. 
توجعني آهات المعذبين، أنين الموجعين، وصرخات المظلومين.. 



The Scream is a well known painting by Eduard Munch. He appears in the painting, not screaming but rather hurt by the screams of suffering passing through him. 
Recently, I heard the song intro for an Arabic Drama called children of vanquish (or maybe oppression is another translation), I felt strange connection between the song and the painting. As the singer says it is rightful for the oppressed to scream, a scream is played, and it hurts, not that you want to stop but because you can't help.. 

Wednesday, 10 February 2021

دفاتر فارهو- ‏مراجعة ‏ونقد

من يملك حق الكتابة؟
دفاتر فارهو هو عنوان رواية للكاتبة العمانية ليلى عبدالله، تتحدث فيها العبدالله على لسان لاجئ إثيوبي يروي ذكرياته. إبتدأ حياته في مخيمٍ للاجئين في الصومال ثم انتقل إلى دولة خليجية ليكمل حياته.

فكرة الرواية رائعة، فالبدون في الكويت محرومين من أي حقوق المواطنة، ونظام الكفيل في السعودية أقرب إلى العبودية، وكثير من "الأجانب" أو "الوافدين" في الدول الخليجية يعيشون بلا صوت ولا حقوق، فلذلك لا بد من الثناء على الكاتبة لإختيارها تسليط الضوء على إنسانية هؤلاء والظلم الذي يعيشونه. 



لكن
كيف تكتب عن ما تعرف وما لا تعرف؟ 

لا أريد أن أقول أنها- الرواية- من أسوأ ما قرأت، لأنها ليست كذلك، لكن يوجد حاجز بدأ في أول صفحة واستمر بالصعود ليدفعني بعيدا عن متابعة القراءة. هذا الحاجز هو : من يملك الحق أو القدرة في الكتابة عن المتعبين، عن المهجرين، عن المستضعفين، من يملك ذلك الحق؟ ليس كل شخص، لكن من يمنح أحداً هذا الحق أو يحرمه إياه؟

في الصفحة الأولى، الفقرة الثالثة تقول ليلى عبدالله وهي تتحدث على لسان فارهو:
كم سنة مضت على مشهد المرأة النحيفة في المخيم؟ صورتها في رأسي، تقف بظهر منحنٍ وفم طفلها متشبث بثديها المتدلي كبالون معبأ بالرمل، تقف في مواجهة رجلين أفريقيين.

رجلين أفريقيين! نعم، هي تتحدث عن لاجئ إثيوبي في مخيم في الصومال، والرجال إفريقيين. أتعلم لماذا إختارت هذا الوصف، لأنها تتخيل المشهد مما رأت في نشرة أخبار، لأنها ليست جزءاً من الحدث، هي متفرج إعتقد أنه يمكنه الحديث عن معاناة الآخرين لأنه شاهد أو قرأ شيئاً عن تلك المعاناة. وهذا الوصف الذي يُشعرك أن الكاتب لا يمت للنص، هي خارج النص بالكلية، يتكرر في كل صفحة. 

ليلى عبدالله كاتبة جيدة وأنا من متابعي مقالتها النقدية في المجلات والمدونات، لكنها في هذه الرواية فشلت في أن تتخيل نفسها جزء من معاناة المهاجرين في الدول الخليجية، بل هي غريب يتحدث عن غرباء، لذلك جاء السرد ضعيفاً وكأنه يدفع القارئ ليبعده عن النص! ليلى عبدالله شاهدت بعض نشرات الأخبار وتقارير مصورة عن معاناة اللاجئين فكتبت عنهم، فكان الناتج خالي من العاطفة، متخبط في الإطار الزمني، وبالتالي ضعيف جداً بالمستوى الأدبي. 
في أول صفحة يقول فارهو أنه في الأربعين من عمره الآن، يعني اللجوء والمجاعة كان في الثمانينات، وهذا ما حدث. لكن مع وصوله إلى الخليج كطفل، بدأت الرواية في التخبط، فطالبان والقاعدة والجولات واللاجئون السوريون يظهرون في الرواية، وربما لأن المعاناة والتعاسة لا تعرف حدود الزمن، ربما، لكن لأن الخط الزمني للرواية غير صحيح وكأنه لم يدققها أحد... 


نعود للسؤال: من يملك الحق في الكتابة عن المعاناة؟ الجواب ببساطة هو أي شخص عاش المعاناة.

غسان كنفاني كتب عن معاناة الفلسطينيين وهو يعرف تلك المعاناة، هو لم يرحل إلى الكويت في خزان مياه ومات في الطريق، لكنه جزء من الذاكرة الموروثة للشعب الذي قاسى بعض أفراده ذلك المصير. 
بيكاسو رسم المعاناة في الحرب الأهلية الإسبانية بلوحة غرنيكا، وهو يعرف ما حدث والرموز التي في لوحته تعبر عنه وعن الشعب الاسباني الذي هو جزء منه. 

سميح شقير عندما غنى يا حيف كانت كلماتها وألحانها أصدق من كل ما بثته القنوات الإخبارية - الداعمة للمؤامرة أو رعاة المؤامرة. 

لا أستطيع أن أحكم إن كان في حياة الكاتبة ما يكفي من الألم لتتحدث عن الموجوعون، فالألم مصدر للإبداع، لكنه ليس مصدر عام بل خاص جداً ومرتبط بشروط صارمة. 

المعاناة ليست خبر تقرأه، أو صورة متحركة تشاهدها على الجوال. المعاناة هي أن تفهم لماذا كلمة لاجئ تُشعرك بالإهانة، حتى وإن قيلت بمنتهى الحب. المعاناة هي أن تدمع عيناك فقط لرؤية البرتقال أو الخبيزة، لأنه يُذكرك بالوطن. المعاناة هي أن تعرف نفسك وتعرف أنك جزء من كل، وهذا الكل هو كل من يحمل لون الجلد، أو القومية، أو الدين، أو الانتماء الذي إضطهدوا لأجله. 

أحمد بكر